وصم “المؤامرة” لا يدحض الاستشراق .. وباحثون يمارسون “الاستغراب”
قال ياسر قنصوة، أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بجامعة طنطا المصرية، إن الاقتصار على وسم إنتاجات الاستشراق الغربي بـ”نظرية المؤامرة” يغفل عمق الإشكال؛ فـ”لتكن!”، لكن السؤال هو: “ماذا تصنع ردة فعلك؟ وما أيديولوجيتك أنت في مقابل الآخر؟ وينبغي أن تقوم على التفنيد والدحض ثم على نسق من المعتقدات تطرحه وينوب عنك عندما يدار الحوار”.
جاء هذا في البرنامج الجديد الذي يقدمه الإعلامي المغربي ياسين عدنان بعنوان “في الاستشراق”، وقال فيه قنصوة إن “النسق الأيديولوجي للاستشراق نتاج نسق فكري، والاستشراق ولو لم ننف عنه توجهه وأغراضه السياسية، إلا أنه (…) في الوقت الذي بدأت إرهاصاته في أواسط القرن الثامن عشر، كانت توجد بنية فكرية نسميها الحداثة، خلقت في رحم التنوير والعلم، وطرح معها الاستشراق كنتاج، وهو قبل أن يكون ابنا لنسق إيديولوجي ابن نسق فكري، والأب الشرعي للاستشراق هو البنية الفكرية للحداثة؛ أي إن الغرب يريد اكتشاف العالم وإعادة هيكلته”.
وأضاف: “توجد في العالم العربي والإسلامي مشكلة كبيرة جدا، هي أنه تغيب عنا الأرضية الفكرية للنقد الذي نرفضه، ولا نسأل عن الأصل بل نتعامل مع الحال، وهذا ما يؤدي إلى حالة من عدم الفهم لطبائع الأمور”، ثم زاد: “لا أنفي الانتقاء في مصادر الاستشراق وإهمال المصادر العربية، فعندما كانت البداية فردية في الاستشراق، كان العمل سياسيا وكان هناك عملاء للتوجه الاستعماري. لكن الاستشراق يتحرك من رؤية وقالب، وطبيعي أنه وضعَ آخره، أي الشرق بكليته الإسلامي والهندي والصيني، في قالب وقمقم لا يريده أن يخرج منه”.
لكن، التفاعل مع هذا الإنتاج يقتضي التفريق بين “الاستشراق الكامن، والاستشراق المعلن، والاستشراق الفردي، والاستشراق الذي تمارسه بعض مراكز الأبحاث ويتخذ بعدا منهجيا يمكن معه تفنيد ما يطرح”.
ويرى قنصوة أن الوعي ضروري بأن “النظام القانوني في العالم العربي والإسلامي، لم يكن ليأخذ بعده المدني لولا الاستشراق، ولو أن الشريعة هي الأصل، إلا أن النظام القانوني لدينا إنتاج استشراقي بامتياز، نتيجة من تحدثوا عن دولة حديثة كما في الغرب، وهذا فتح أمامنا آفاقا كبيرة”، ولذا فـ”أوروبا استثناء في الاستشراق، لأنه لَم تدرس حضارة قبلها الآخر كما فعلت، ولو أن الغرض هو الاستعمار، إلا أن هذه أرض جديدة وطأتها الحداثة الغربية”.
كما أن هناك كتابات استشراقية “فتحت في ثقافتنا أبوابا كبرى كانت مسكوتا عنها، وتفكير الآخر فينا يدلنا على قصور ونواقص وأشياء تحتاج الرد منا، وليس الرد هو اتهام الاستشراق بأنه سياسي واستعماري”، بل “بترسيخ وتثبيت ما نراه”.
وقياسا على ذِكر المفكر الجزائري مالك بن نبي أن المشكلة “في القابلية للاستعمار”، قال المحاوَر إن المشكلة ليست “في الإيديولوجيا التي تحمل نسقا فكريا بغاية السيطرة والسلطة وفرض الهيمنة”، بل الإيديولوجيا “نتاج أرضية فكرية ينبغي أن نتعامل معها، فهي الأصل”.
وحول “استغراب” المفكر المصري حسن حنفي، ذكر أستاذ الفلسفة: “كلنا كباحثين عرب ومسلمين (نستغرب)، ندرس ثقافة الآخر، الذي له حضور قوي في الساحة، ليس لإحساس بالدونية وعقدة النقص، فعقدة النقص نابعة من عدم القدرة على الرد، مما يقود إلى أن تدوسك مقولات الغرب. المشكل قابليتك أنت، فإما أن تواجِهَ بعقدة نقص ودونية، أو استعلاء، وكلاهما مر، فالشعور بعقدة النقص يقضي على مبادراتك وقدرتك على التغيير، والاستعلاء وهم، ففي العلم والثقافة لا تزال مستهلكا”.
وبالتالي، الجواب حسب المتدخل أن “نقدم نفسنا كما يجب، وهذا ما صنعه الأدباء بتقديم المجتمع بعادات وتقاليد وروح”، ثم تساءل: “لِمَ لم يصنع هذا المفكرون؟”.
واسترسل شارحا: “نحن في عالم متواصل أحببت أم لم تحب، فكيف توظف هذا التواصل الإنساني، خاصة بعد ثورة المعلومات وشبكات التواصل الاجتماعي، بالاستعداد والتجهيز لتقديم نفسك للعالم كما ترى أنت وكما تحب أن يرى العالم؛ الكل ماض في سبيله يقدم رسالة ما، والمهم ما يمكنك تقديمه في مواجهة ما فرض عليك وما طرح عليك وما وُضِعت فيه من قالب، وكيف تكسره وتقدمه بشكل مختلف، بالصورة التي تراها، دون أن تكون دونيا أو استعلائيا”.
ثم ختم حديثه بقول إن الجواب الحقيقي هو “فليجتهد كل منا، على أن يكتب ويسجل، ردودا مباشرة، أو مؤكدة ومثبتة لما نفاه الاستشراق، أو مُعَرِّفَة تعريفا جديدا لما يجب أن يقرأ ويعرف به”.