حرب غزة: “العثور على رضيعي كان العثور على قطرة ماء في صحراء قاحلة”
بعد أكثر من شهرين من الفراق، ولأول مرة منذ الولادة، اجتمع شمل نور البنا، أم فلسطينية ثلاثينية، بطفلتيها الرضيعتين لين وليان..
“بدأت أبكي من الفرح والسعادة، لم أصدق أنهما لا زالتا على قيد الحياة، كنت قد فقدت الأمل تماما” بهذه العبارة استهلت نور حديثها عن رحلة العثور عن الخديجتين، بعد إخلائهما من مستشفى الشفاء في قطاع غزة.
لم تعتقد نور أن يوما سيأتي لترى فيه رضيعتيها أبداً، قائلة لي في مكالمة هاتفية، وهي تذرف الدموع “لم أعلم عنهما شيئاً منذ بدء الحرب، فقدتُ الأمل بأن تكونا على قيد الحياة، إنها معجزة”.
كانت نور حبلى بثلاثة أجنة قبل بدء الحرب، وبسبب بعض التعقيدات الصحية اضطرت للخضوع إلى عملية قيصرية في مستشفى الشفاء في شمال قطاع غزة في الـ 19 من سبتمبر/ أيلول الماضي، كانت حينها في الشهر السابع من الحمل. وضعت ثلاثة أطفال، بنتين وولدا، وبعدها عادت لمنزلها بدير البلح في المنطقة الوسطى في قطاع غزة.
بعد أربعة أيام توفي الولد، وبقيت الطفلتان لين وليان في الحضانات على أجهزة التنفس الصناعي، في قسم حديثي الولادة في مجمع الشفاء. ومنذ ذلك الحين، لم ترهما أمهما أبدا.
تقول نور “بعد الولادة، أصبت بالإحباط والحزن الشديدين بعد وفاة طفلي ولم أتمكن من زيارة طفلتيّ، ثم اندلعت الحرب.. لم أستطع الذهاب لرؤيتهما، ثم بدأت القوات الإسرائيلية بدخول مستشفى الشفاء وانتشرت الأخبار عن وفاة عدد من الخدج”.
بسبب فوضى الحرب وانقطاع الاتصالات في كثير من الأحيان في غزة، لم تتمكن نور من معرفة مصير الرضيعتين، ولكن انتشرت تقارير عن إخراج الخدج في مستشفى الشفاء من الحضانات بسبب انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود.
في الــ19 من نوفمبر / تشرين الثاني، تم إجلاء 31 من الأطفال الخدج في مجمع الشفاء إلى مستشفى الهلال الإماراتي في تل السلطان في مدينة رفح جنوب قطاع غزة. وبعد ذلك بيوم، نُقل 28 بمن فيهم لين وليان إلى مصر لتلقي العلاج.
وكانت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة قد نشرت عبر حسابها على موقع فيسبوك قائمة بأسماء الخدج البالغ عددهم 31 – الذين تم إجلاؤهم من مستشفى الشفاء- مطالبةً ذويهم بالتوجه إلى مستشفى الهلال الإماراتي للتعرف على أبنائهم.
” كانتا تبكيان من شدة الجوع وكانتا هزيلتان جدا”
علمت نور بأن رضيعتيها لا تزالان على قيد الحياة، بعد أن أخبرتها بذلك زوجة أخيها – التي تعمل كطبيبة- ورأت أن القائمة المنشورة من قبل الوزارة، تشمل خديجتين تحملان اسمها. تقول الأم الشابة: “قالت لي زوجة أخي إن اسم الرضيعتين يندرج على قائمة وزارة الصحة وهما بالفعل موجودتان على رقم 1 و 30 على القائمة، حينها بدأت بالبكاء من الفرح، فهذا يعني أنهما على قيد الحياة”.
توجهت نور سريعا إلى مستشفى الهلال الإماراتي وعثرت على رضيعتيها، وتقول إنها تمكنت من التعرف عليهما من خلال “شريط يحمل اسمها على معصميهما”. تصف نور أول مشهد لرضيعتيها قائلة: “كانتا تبكيان من فرط الجوع وكانتا هزيلتين جدا. قال لي الأطباء إنهما قدما من الشفاء في حالة صعبة ولا أحد يعرف كيف تمكن الأطباء من الحفاظ على حياتهما”.
وطُلب من الأهالي الذين وصلوا إلى رفح توقيع نموذج موافقة على سفر أطفالهم إلى مصر لتلقي العلاج. وأشار الدكتور محمد سلامة، رئيس قسم حديثي الولادة في مستشفى الهلال الإماراتي في رفح، لبي بي سي إن الأطفال الذين لم يحضر ذووهم، سافروا برفقة ممرضين.
سافرت نور مع رضيعتيها إلى مصر، وهناك نقلتها السلطات الصحية المصرية إلى مستشفى العاصمة الإدارية في القاهرة ، فيما نُقل عدد من الرضع الآخرين إلى مستشفى العريش، إما بصحبة أمهاتهم أو فرق التمريض الفلسطينية.
ويقول الدكتور سلامة لبي بي سي إن 12 شخصا فقط من أولياء الأمور كانوا قد تمكنوا من الوصول للمستشفى برفح للتعرف على أبنائهم الخدج ، مشيراً إلى أن آخرين لم يأتوا “إما لأنهم عالقون أو لأنهم قد قتلوا أو أصيبوا في شمال قطاع غزة”.
“أريد أن يبقى طفلي أمام عيني”
وقال الدكتور سلامة إن اثنين من ذوي الرضع رفضوا نقل أبنائهم من غزة إلى مصر، من بينهم وردة وعلي اسبيتة اللذين فضلا أن يبقى رضيعهما “أنس” في مستشفى الهلال الإماراتي في رفح لتلقي العلاج.
تقول وردة – وهي أم لسبعة أطفال آخرين- : “رفضت إرسال طفلي للعلاج في مصر لأني لم أكد أصدق أني وجدته أصلا، والأطباء في مصر لن يمنحوه الرعاية التي سأمنحها له أنا، أو الرعاية التي سيمنحها له الأطباء هنا. أريد أن يبقى طفلي هنا أمام عيني، تعبت كثيرا حتى وصلت إليه” .
“روحي عادت لي بالعثور عليه”
وقال علي، والد أنس، إن زوجته لم تتمكن من ترك أطفالهما السبعة لمرافقة الرضيع إلى مصر.
“أطفالنا الآخرون بحاجة لها، وأنا كأب لا أريد لطفلي أن يبتعد عني مرة أخرى، إنها معجزة، فالعثور عليه كان كالعثور على قطرة ماء في صحراء قاحلة، وكأن روحي عادت لي بالعثور عليه”.
يقول علي، أستاذ العلوم بمدرسة تابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، إنه لم يتوقع أن يلتئم شمله بطفله الرضيع بعد أكثر من 45 يوماً من الفراق.
“توقعت أن أجده جثة وأذهب لدفنه، كنت قد فقدت الأمل”
وكان والدا الطفل أنس، قد نزحا من شمال قطاع غزة عدة مرات ويقيمان الآن في مدرسة تابعة لوكالة (أونروا) في مدينة خان يونس جنوب القطاع، منذ 13 أكتوبر تشرين الأول. وبسبب النزوح المتكرر، لم يتمكنا من التواصل مع الأطباء في مستشفى الشفاء لمعرفة أي جديد عن حالة رضيعهما.
تقول وردة: “لقد علمت عن نبأ إخلاء الخدج عن طريق الجيران، لم أكن أعلم أن طفلي على قيد الحياة كنت أبحث عنه فقط”. وتضيف إنهما حاولا العثور على أنس من خلال البحث عنه في كل المستشفيات بالجنوب، حتى قال لهم أطباء في مستشفى ناصر بخان يونس إن الخدج نقلوا إلى مستشفى الهلال الإماراتي في رفح.
تقول وردة: “لقد كان الشعور غامراً عندما علمت أنه على قيد الحياة، كنت قد فقدت الأمل واستودعته عند الله”
“أدخلت يدي عبر الحضانة ولمسته للمرة الأولى”
دخلت وردة إلى المستشفى برفقة زوجها علي للبحث عن أنس، يقول علي لبي بي سي: ” كانت عيني تتبع أصبع الطبيب وهو يمر على الأسماء في القائمة حتى رأيت اسم “ابن وردة اسبيته” لم أصدق أنه حي”.
دخل الزوجان إلى الحضانة لرؤية رضيعهما، تقول وردة: “بحثت عنه كثيرا بين الأطفال، ثم وجدته. كان قد كبر في الحجم قليلاً واختلفت ملامحه قليلا عما كان عند الولادة، حمدت الله كثيرا، فابني لا يزال على قيد الحياة”.
كانت هذه أول لحظات اللقاء بين وردة ورضيعها. تقول إنها لمسته لأول مرة منذ أن وضعته. “أدخلت يدي عبر الحضانة ولمسته للمرة الأولى، وبعدها سمح لي الأطباء بحمله وحضنه وتقبيله”.
أنس، الذي كان يحمل الرقم 27 على قائمة الأطفال الخدج الذين تم إجلاؤهم من مستشفى الشفاء، يعاني من انخفاض في مستوى الهيموغلوبين في الدم وجرثومة في المعدة بسبب سوء التغذية.
لكن والدته تقول إنه الآن خرج من المستشفى وعاد إلى حضن عائلته في مكان نزوحهم في مدرسة الأونورا.
وتضيف وردة “هو بيننا الآن، وبين أخواته السبعة. لا نستطيع وصف سعادتنا بعودته لأحضاننا”.