لقاء بالقنيطرة يناقش تقاطعات الذاكرة والتاريخ
نظم فريق البحث في القيم المجتمعية والتحولات السياسية التابع لمختبر الإنسان والمجتمعات والقيم بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، بشراكة مع المركز الأكاديمي للدراسات الاجتماعية، بمدرج الندوات، صبيحة الثلاثاء 14 نونبر الجاري، لقاء علميا استضاف عبد العزيز الطاهري، أستاذ التاريخ ورئيس شعبته بجامعة محمد الخامس بالرباط عضو الجمعية المغربية للبحث التاريخي، لتقديم تجربته في فهم جدلية العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، خصوصا أن متنه في الموضوع نفسه بعنوان “الذاكرة والتاريخ.. المغرب خلال الفترة الاستعمارية (1912-1956) هو الحائز على جائزة المغرب للكتاب في صنف العلوم الإنسانية برسم سنة 2017.
وفي كلمة تقديمية بالمناسبة، اعتبر عبد الغني شفيق، أستاذ علم الاجتماع ورئيس الشعبة نفسها بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، أن موضوع الذاكرة والتاريخ يقع في خط تماس بين تخصصات علمية كثيرة؛ فهو يتقاطع مع علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا، كما ينفتح على تخصصات علمية أخرى كالبيولوجيا وعلم الأعصاب… وهو ما يجعل موضوع اللقاء واستضافة أحد المتخصصين فيه ذا أهمية بالغة وأكثر راهنية.
وأشار شفيق إلى أن علاقة الذاكرة بالتاريخ وفي تماس مع هذه التخصصات تنفتح على عدد من الإشكالات المرتبطة بالكتابة والتأليف في العلوم الإنسانية وفي الثقافة وفي الأنثروبولوجيا.
وأكد المتحدث ذاته أن “هذا التقاطع بين تخصصات عديدة وجب الالتفات إليه، بل وجعل التعاطي معه تقليدا وتشجيعه؛ وهو ما يحاول بل تكريسه مختبر البحث وكذا المركز كشريك”، لافتا إلى أن هذا العمل “كنا بدأنا فيه سابقا، سواء مع برنامج “تجارب بحثية” أو “تقاطعات” مع باحثين في عدد من التخصصات؛ كالاقتصاد والتاريخ والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية. ويدخل ضمن برنامج عمل المركز وشركائه في إطار برامج تروم خدمة البحث العلمي”.
عبد العزيز الطاهري، المحاضر في هذا اللقاء العلمي، قال بأنه سيقارب في مداخلته موضوع الذاكرة والتاريخ انطلاقا من محاولة الإجابة عن سؤالين كبيرين: ما المقصود بإشكالية الذاكرة والتاريخ؟ ثم كيف تم توظيف العلوم الإنسانية في دراسة وفهم هذه الإشكالية؟
وفي محاولة لعرض وجهة نظره حول الإشكالية، أوضح الطاهري، أستاذ التاريخ بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن كثيرا من الناس وحتى بعض الدارسين يخلطون بين المفردتين؛ “فيعتبرون التاريخ ذاكرة والذاكرة تاريخ، فالذاكرة وإن كانت تشترك مع التاريخ في مسألة استعادة الماضي فإنها تختلف عنه في كيفية وطريقة هذه الاستعادة” قال المتحدث ذاته، الذي اعتبر التاريخ علما من العلوم الإنسانية موضوعه ليس هو الماضي كما يعتقد البعض؛ ولكن هو الإنسان في الزمن “والسمة الزمنية هذه هي التي تجعله علما من العلوم”، خصوصا بعد أن انتقل من كونه جزءا من الذاكرة إلى كون الذاكرة موضوعا له.
وعدد الطاهري بعض الفروقات والاختلافات بين الذاكرة والتاريخ؛ فالذاكرة ذات طابع أدبي وتحضر فيها الإيديولوجيا والسياسة والأسطورة باستثناء حالات نادرة، وكان التاريخ ملتصقا بالذاكرة.. لكن مع تطور المناهج الوضعية بدأ يتحول إلى علم و”تحقق ما يسمى بالطلاق بين علم التاريخ والذاكرة”، مستدركا أن هذا الطلاق لم يكن طلاقا بالثلاث بل بقيت تربطهما علاقة شرطية، تتعلق بشرط ترويض الذاكرة وعقلنتها “لنتحدث، في آخر المطاف، عن التاريخ كذاكرة تمت عقلنتها وفحصها”.
ومن الفروق التي ذكرها المحاضر كون الذاكرة يغلب عليها الطابع السردي؛ في حين يبقى التاريخ علما قائما على مناهج علمية وعقلانية، مستشهدا بما قاله العروي وقبله فردناند بروديل كون التاريخ “حرفة”، وبالتالي ليس كل واحد مؤهل لأن يصبح مؤرخا، في المقابل تبرز الذاكرة كهواية ويمكن لأي إنسان أن يتذكر في حين لا يمكنه كتابة التاريخ. كما أكد أن الذاكرة نظرة إلى التاريخ من الداخل والتاريخ نظرة إلى الذاكرة من الخارج، “بمعنى خطاب الذاكرة مباشر وخطاب التاريخ غير مباشر”.
وفي محاولة منه للإجابة عن سؤال لماذا الحديث اليوم وأكثر من أي وقت سابق عن الذاكرة والتاريخ؟ ربط الطاهري هذا الاهتمام بأمرين اثنين: سياق دولي وآخر وطني. بخصوص السياق الدولي، أرجع أستاذ التاريخ الأمر إلى ما خلفته الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها من نتائج اقتصادية واجتماعية وسياسية ومن فظاعات، ثم ما تلاها من ظهور تكتلات دولية وظهور دول العالم الثالث، وكذا صعود أشكال جديدة من الأنظمة الحاكمة يطبع كثيرا منها التحكم والديكتاتورية. وبعد هذه الأحداث، جاءت مرحلة الانتقال الديمقراطي التي عرفتها العديد من دول العالم وظهور العدالة الانتقالية ولجان الحقيقة والإنصاف وجبر الضرر، ليخلص إلى أنه في ظل هذه التطورات المتلاحقة بدأ يسطع نجم فاعل جديد وهو “الشاهد” الذي كان في السابق إما فاعلا سواء سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا أو من جهة أخرى بصفته ضحية لهذه المرحلة. ومن هنا، بدأ المؤرخون يتحدثون عن عصر الشاهد، فبدأت الذاكرة تحتل مكانة وأهمية كبرى منافسة للتاريخ.
أما بخصوص السياق الوطني الذي ساهم في الحديث عن الذاكرة والتاريخ بهذه الأهمية، فربطه المحاضر أولا بالسياق الدولي الذي لم يكن المغرب في معزل عنه، وظهور الحركة الوطنية التحررية والبدء في بناء الدولة الوطنية المستقلة؛ “وبالتالي بتنا في الحاجة إلى سردية تاريخية تعيد بناء الذاكرة من أجل بناء الوحدة الوطنية”، قال عبد العزيز الطاهري، وثانيا بما جاء بعدها خصوصا فترة الصراع السياسي وسنوات الجمر والرصاص وما رافقهما من انتهاكات لحقوق الإنسان، ثم بعدها هيئة الإنصاف والمصالحة، وما رافقها من سياسة للانفتاح السياسي وتوسيع هامش الحريات في مجالات متعددة وتعديل الدستور وتعيين حكومة التناوب التوافقي “ليبدأ الكثيرون بنوع من البوح عما وقع في الماضي سواء من طرف الضحايا أو مسؤولي الدولة أنفسهم”، أضاف المتخصص ذاته، مؤكدا أن الذاكرة وبداية من هذه المرحلة أصبحت حاضرة بقوة بل تسعى إلى الهيمنة على تمثل الماضي، خصوصا أنها أضحت مسنودة بآلة إعلامية ساهمت في تضخمها وتحويلها إلى منتوج إعلامي مهيمنا على الدراسات التاريخية.
أما عن علاقة الذاكرة بالعلوم الأخرى خاصة العلوم الإنسانية والتقاطعات بينهما خصوصا في بحثه، أوضح الطاهري أن العلوم الإنسانية كانت سباقة لدراسة الذاكرة انطلاقا من مقاربتها الخاصة وليس بعلاقتها مع التاريخ، مقدما مثالا على تعاطي البيولوجيا معها، إذ اعتبرت الذاكرة وظيفة بيولوجية بالأساس تتعلق بأفعال الإدراك والتذكر والتعرف؛ في حين تم اعتبار الجانب النفسي عرضيا وهامشيا يتعلق بالتعرف فقط. أما الفلاسفة فتحدثوا عن الذاكرة كملكة نفسية ومعيشا ذاتيا، وكل الأفعال المرتبطة بها من إدراك وتذكر وتعرف هي تمثلات ذاتية محكومة بحاضر التذكر.
وبخصوص التقاطعات بين التاريخ والذاكرة والسوسيولوجيا، أكد المحاضر على كونها جد مهمة في إطار التلاقح بين التخصصات، مشيرا إلى أن السوسيولوجيا ساعدته كثيرا في بحثه في الموضوع، مستنيرا بكتابة العديد من علماء الاجتماع خاصة كتابي موريس هالبواكس الموسومين بـ”الأطر الاجتماعية للذاكرة” و”الذاكرة الجمعية”، شارحا مقاربته التي تقول بكون الإنسان لا يمكن أن يتذكر إلا في وجود جماعة أو مجموعة كما يعبر النسيان عن فقدان الجماعة، مؤكدا أنه وظف في بحثه الأطر الاجتماعية للذاكرة باستحضار متغيرين اثنين: السياقات الاجتماعية لإنتاج الذكرى من جهة أولى، والانتماءات الاجتماعية ودورها في هذا الإنتاج من جهة أخرى.
في ما يتعلق بالسياقات الاجتماعية قدم مثالا لنظرة بعض أطراف الحركة الوطنية بمنظور سلبي للطرق والزوايا باعتبارها علة وسببا في الاستعمار؛ وهو راجع، حسب المتحدث، إلى سياق اجتماعي سوسيولوجي يتجلى في الصراع بين القرى التي كانت تقاوم بالسلاح انطلاقا من إيديولوجية إسلامية جهادية، والمدينة التي ظهرت بها نخبة مثقفة كانت مع المقاومة السياسية وحاولت كبح الأسس الإيديولوجية للطرق والزوايا مع الاحتفاظ والاستفادة من الجانب التنظيمي وجانب الموارد البشرية.
وزاد المحاضر شارحا في مثال ثان يتعلق بتأثير السوسيولوجبا وجانب السياق الاجتماعي، وهو كون بعض المدن كفاس مثلا كانت بها في البداية حركة وطنية سلمية واختلف تمثلها عن الحركة الوطنية التي تنتمي إلى فئات عمالية وكذلك اختلف عن فئة أخرى في الجنوب المغربي ودرست في مولاي يوسف.
وفي الأخير، ختم المحاضر تدخله بعلاقة الذاكرة بالأدب، خصوصا الخيال والصورة.
يشار إلى أن هذا اللقاء العلمي، الذي أداره الأستاذ عبد الغني شفيق، عرف حضور كل من أحمد فرحان، أستاذ الفلسفة بجامعة ابن طفيل ونائب العميد في البحث العلمي، والباحث حسن أحجيج، رئيس المركز الأكاديمي للدراسات الاجتماعية، وعدد من الأساتذة وطلاب الماستر والدكتوراه، وعرف تفاعلا في إطار نقاش مستفيض مع ما قدمه عبد العزيز الطاهري في محاضرته.