وقف تعميم التعليم في الستينات “خطيئة”.. وحلّ مشاكل المدرسة “ديموغرافي”

قال عالم الاجتماع محمد الصغير جنجار إن “خطيئة سوسيولوجية” في أواسط ستينات القرن الماضي قد ساهمت بشكل كبير في مشاكل التعليم المستمرة بالمغرب إلى اليوم، بسبب قرار وقف تعميم التعليم، بحجة تغليب الكيف على الكم.
وفي سلسلة محاضرات داخلية انطلقت بمؤسسة أبي بكر القادري بسلا حول “رهانات وتحديات نظام التعليم المغربي”، ذكر نائب مدير مؤسسة الملك عبد العزيز للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالبيضاء أن “العقيدة التربوية الجديدة” التي أعلنها وزير التعليم بنهيمة في سنة 1965 لـ”تكييف وتمتين نظامنا التعليمي”، تعني “بلغة اليوم”: “إعطاء الأولوية للثانوي بدل الابتدائي، وإعطاء الأولوية للدولة وحاجياتها التكوينية، أي تكوين الأطر، وتأجيل الاستجابة للطلب المجتمعي في توسيع قاعدة المتعلمين.”
جاء هذا بعدما كانت روح مختلف الإصلاحات المستعجلة بعد استقلال المغرب هي “السعي لتعميم التمدرس بأسرع وقت ممكن، باعتباره يستجيب لحق من حقوق مواطني المغرب الجديد، ويسهم في النمو، ويستجيب لأحد الوعود الأساسية للحركة الوطنية، ويحرر النظام التربوي من الهيمنة الأجنبية”، مما أثمر انتقالا من 300 ألف متمدرس في سنة 1956 إلى مليون و300 ألف في سنوات معدودة، لكن توقف هذا المسار في 1964 و1965″، في ظل “عقد سياسي مضطرب في الستينات، وتوتر ظهر واضحا في قطاع التعليم”.
ووصف جنجار تقدير وقرار وقف تعميم التعليم بكونه “خطيئة سوسيولوجية”؛ لأن تعميم التعليم لجيلين أو ثلاثة ضرورة، و”ليس المهم نوعية التعليم في حد ذاته”؛ فـ”الخروج من الثقافة الشفوية يتطلب تعميم التعليم، ودخول التلاميذ بالأعداد الكافية، ولو مع ضعفٍ في المردودية، لأن التعميم سيخلق لغة مدرسية داخل الأسرة، وييسّر الانتقال من المنزل إلى المدرسة”، عبر تعميم “الرأسمال الثقافي المدرسي”، علما أن ضمان “الجودة” في التعليم، يقتضي “عملية تفاعلية بين المدرسة والمجتمع والأسرة والمجتمع”، وهو ما يتكون “عبر جيلين أو ثلاثة، ولا يمكن التفكير فيه بطريقة متسرعة كما حصل في سنة 1965”.
وأوضح جنجار في قراءة لواقع التعليم بالمغرب أن تخفيض إيقاع التمدرس قد استمر في السبعينات، ثم بين 1983 و1992 كانت مرحلة الأزمة المالية التي أدت إلى اعتماد برنامج التقويم الهيكلي طيلة عقد بأكمله، وهو ما أثر سلبا على وتيرة تعميم التعليم، فلم يتجاوز التزايد السنوي للتلاميذ 1.4 في المائة.
واستعار المحاضر تسمية بعض الدارسين لما حدث في تلك الفترة بـ”الإبادة المدرسية”؛ لأن مئات الآلاف من الفتيات لم يتمدرسن في البادية على وجه الخصوص. ثم نبه إلى الحاجة إلى “دراسة ديمغرافية دقيقة لعدد الأطفال إذاك، ونِسب أولئك الذين لم يدخلوا منهم المدرسة، لأننا لا نتوفر على هذا لنعرف حجم الخصاص الحاصل”.
هذا “الزمن الضائع” في تعميم التعليم بين النصف الثاني من الستينات والسبعينات، الذي عمَّقته الأزمة الاقتصادية والمالية وسياسة التقشف في الثمانينات، أدى إلى عدم ارتفاع وتيرة التمدرس إلا بحلول أواسط التسعينات مع حكومة عبد الرحمان اليوسفي، و”لم يكتمل مسلسل التعميم الفعلي للتعليم الابتدائي إلا في بداية القرن الحادي والعشرين.”
ونتيجة لهذا “أضاع المغرب النافذة الديموغرافية التي فتحت منذ الثمانينات”، علما أن “هذه المرحلة عادة ما تكون مرحلة الانتعاش الاقتصادي والاجتماعي للدول؛ لأن أعداد الشباب النشط تكون أكبر من أعداد الشرائح المعالة (الأطفال والشيوخ)”، وبسبب “تعثر واختلالات المنظومة التربوية”، دخل القرن العشرون وقرابة “40 في المائة من الساكنة أمية”، بل ويوجد اليوم مليون وسبعمائة ألف شاب، بين 15 و25 سنة، لا في التكوين ولا في التعليم ولا في الشغل، وفق ما كشفه المرصد الوطني للتنمية البشرية سنة 2021.
ومن بين أوجه الإشكال في المنظومة التربوية المغربية، وفق جنجار، “واقع التردّد”؛ فقد بدأ التعريب سنة 1957، ودُرّست في الابتدائي كل المواد باللغة العربية باستثناء مادة الفرنسية، ثم أوقف ذلك بين 1961 و1963، ليعادَ في سنة 1967، ويتوقف بعد سنتين تعريب المواد العلمية، ليُستأنَف في الثمانينات، ويتوقف بعد ذلك، والآن في سنواتنا الحالية بدأنا نسمع من يتحدث عن “القفز إلى الإنجليزية مباشرة”.
وكانت نتيجة هذا التردد في حسم لغة التدريس، “فجوة عند تلاميذنا بين اللغتَين الأم الدارجة والأمازيغية، ولغات الكتابة العربية والفرنسية، ووجود 70 في المائة لا يتحكمون لا في العربية ولا في الفرنسية؛ مما يعني انعدام الأمن اللغوي والعجز عن التعبير الكتابي والشفوي، وهو ما صار مزمنا عند فئات واسعة كما يتضح في نتائج تقويم الكفايات اللغوية (بيزا) للتلاميذ قبل خمس سنوات”.
وهكذا، بسبب “إضاعة زمن تعميم التعليم” يعيش المغرب اليوم “مشاكل كان ينبغي الحسم فيها في الثمانينات”.
وحول الإشكال المتكرر بين التعليمَين الخاص والعمومي، أوضح المحاضر أن أصناف التعليم التي أرستها الحماية أربعة، هي: التعليم الأوروبي فرنسيّ اللغة الموجه للأوروبيين والمغاربة اليهود الذي تشرف عليه الحماية، والتعليم الإسلامي مزدوج اللغة الموجه لأبناء النخبة والأعيان والأرستقراطية الحضرية، والتعليم ذو التوجه العربي الإسلامي الحديث الذي يعتمد على تجارب الإصلاح في المشرق العربي، ويهم تلاميذ الأوساط الحضرية المتواضعة، وهو خاضع لسلطة المخزن، ثم التعليم الأصيل لتلاميذ مغاربة مسلمين في المناطق الحضرية والقروية المتواضعة ويشرف عليه المخزن.
هذه الأصناف ورثها مغرب ما بعد الاستقلال؛ فوجد نفسه أمام “منظومة متشظية، ضعيفة المردودية، لم يستفد منها إلا عدد قليل من المغاربة”؛ ففي سنة 1955 كان يتخلى ثلاثة أرباع المغاربة المسلمين عن التعليم قبل السنة الخامسة من التعليم الابتدائي، ونسبة قليلة هي التي تبقى في التعليم الثانوي، علما أن 6 في المائة فقط من الأطفال المغاربة المسلمين كانوا في المدرسة في ذاك الإبّان.
وظلت بنية عيوب المنظومة الموروثة عن الحماية قائمة في مغرب الاستقلال في العرض التربوي والزبائن، ولو تغيّرت التسميات، حسب المتدخل ذاته.
ويرى السوسيولوجي محمد الصغير جنجار أن “معيقات المنظومة التعليمية” الموروثة عن الماضي قد لا يتم تجاوزها نهائيا إلا عندما يتم “سد قوس الانتقال الديمغرافي المرتقب”، وفي انتظار ذلك “ستبقى حدة المشاكل قائمة”.