تحقيق يكشف “الجانب الخفي” في عطاء العلامة الناصري صاحب كتاب “الاستقصا”

“جانبٌ خفي من جوانب عطاء الشيخ المؤرخ أحمد بن خالد الناصري “صاحب “الاستقصا”، هو إبداعه الشعري، يكشفه كتاب جديد أعدته وحققته الأكاديمية المتخصصة في الأدب المغربي نجاة المريني، صدر عن منشورات الخزانة العلمية الصبيحية.
“باقة أشعار المؤرخ أحمد بن خالد الناصري السلاوي” ترافقُ فيها الأشعارَ المحققةَ صورةُ المخطوط الذي صان نماذج من شعر المؤرخِ، مع ضبط شكلها ودراسة موضوعاتها، انطلاقا من ديوان المؤرخ الذي يكشف، إلى جانب كتابه “زهر الأفنان من حديقة ابن الونان”، “حاسته الأدبية وبراعته اللغوية وقدرته على تقصي المعاني وضبط المباني”، وفق المريني.
وتابعت المحقّقة: “لقد بهرتني لغة الشاعر وهو ينظم قصائده ومقطوعاته بذلكم الكم الهائل من الصور الشعرية والأخيلة المتدفقة كشلال يبعث على الانتشاء بما في تلكم القصائد من تعابير وأساليب، متكئا على بنية القصيدة العربية القديمة، خاصة في القصائد الطويلة، فيتحدث في المقدمة الغزلية التي تعوَّد الشعراء على افتتاح قصائدهم بها عن أم سليمى وهند وبثينة وغيرهن من النساء اللائي أثرن فيه شعلة التغني بالحب والشكوى من ألم الضنى، ثم ينتقل إلى موضوعه أكان مدحا أم رثاء أم غيره، وقد تتضمن قصيدته النصيحة والتمسك بالخصال الحميدة كالوفاء والتواضع والكرم وتجنب المزالق، ويختمها بالدعاء للممدوح وغير ذلك”.
وأكّدت المريني أن لغة الناصري الذي عاش في القرن التاسع عشر “لغة مُشرِقَة قوية” وأساليبه “جزلة منسابة” ومرد ذلك إلى “تمكُّنه من الأسلوب العربي المشرق، ومن البيان العربي في أجلى صوره وأبهاها، فهو خبيرٌ باللغة العربية ضليعٌ في فنونها، عارفٌ بخباياها”.
وأبرزت الدراسة المرفقة بديوان الناصري أن المخطوط مكّن من اكتشاف “صفحة أخرى من صفحات عطائه في الكتابة والتدوين”، وهو ما تطلب العناية بشرح ما ورد في الأشعار من كلمات صعبة، والتعليق عليها، والتعريف ببعض الأعلام الواردِ ذكرهم فيها، إلى جانب عنونة كل قصيدة بعنوان يناسبها، ونسبتها لبحرها الشعري، والحفاظ على ترتيبها الأصلي في المخطوط.
ووضحت محقّقة أشعار الناصري ودارِسَتُها أن أغلب شعرِه غير مدوّن، وما المدوّن منه إلا “نزر يسير، مخطوط ومحفوظ بالمكتبة الناصرية في مجلّد صغير”، وأشعارٌ له أثبتها في تاريخه “الاستقصا”، ثم استشهدت بما قاله المؤرخ عن سبب ضياع شعرِه في رسالة إلى الأديب الفاطمي الصقلي: “وقد كان جرى على لساني أيام الشبيبة قصائد ومقاطع قصار، ذهب معظمها أدراج الرياح، إذ لم أكن أقيِّدها فيما يحفظها، إنما كنت أقيدها في القطع، فاغتالتها يد الضياع”.
وحول عِلّة عدم إكثاره في قول الشعر، أثبتت المريني ما ورد في رسالة الناصري المذكورة: “أما تعاطي الشعر فقد كنتُ أنتحله أيام الشبيبة ثم أعرضت عنه، إذ بضاعته مزجاة في هذا الزمان الذي سوق الأدب فيه كاسدة (…) وإنما المطلوب أن يعرف الإنسان آلته، ومادته، وكيفية قرضه ونقده، حتى تجود ملَكَتُه، ويتمَّ ذوقه ويصير بصيرا باللسان العربي، وأساليبه، وفنونه، ثم يتفرغ لما هو أهمُّ من ذلك”.
وللناصري رأي في الشعر أوردَه موسوعَتَهُ “زهر الأفنان” التي شرح فيها القصيدة “الشمقمقية”، ونقلته الأكاديمية أمينة المريني؛ فالشعر دالّ عنده على “جودة القريحة، وصحة النظر، وتمام الذوق، وكمال الإنسانية”، و”ما سُمِّيَ الشاعر شاعرا إلا أنه يشعر بما لا يشعر به غيره، ولذلك يهتدي إلى مواقع المدح والهجاء، ويتقلب في أفانين الكلام، فيأتي بالسحر الحلال، ويطوّقُ أجملَ من سمط اللآل”.
ومن بين ما يضمه الديوان من شعر أحمد بن خالد الناصري، قصيدة في مدح السلطان الحسن الأول، ممّا قاله في مقدمتها:
(…)
والدَّمعُ في الوَجناتِ مُحْمَرّا غَدا .. وَلَدى الوُشاةِ بهِ انتفى الإلباسُ
إنَّ الأُلَـى يَســتَعْذِبون ملامَـــــه .. ما إِنْ لهُم بعذابِه إحســـــــاسُ
قِدْماً عَذَلْتُ ذَوِي الغرام سفاهَـةً .. حتى غدَوْتُ بمَنسِـــمَـيهِ أُداسُ
وحَسِبْتُهُ حُلْوَ الجـنَى فأساغَــني .. مِنْ بَأْسِهِ ما لا يُـــسيــغُ الباسُ”.
وفي رثاء “شيخنا العلامة الدراكة النّفّاعة” أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز محبوبة السلاوي، قال الناصري:
(…)
فَمَــا لي ولِلأيّــامِ أَبغي وِدادَهــــا؟ .. وَهَلْ عَزَمَتْ مِنْ قبلُ إلّا عَلَى حَـرْبِي؟
لَعَمْرُ النَّوَى ما زِلْتُ أحْذَرُ بَطْشَها .. إلى أَنْ دَهَــتْني في كـــتائِبِها الشُّــهْبِ
لَهَا خُـــلُقُ الحســـناءِ فيمَا تُــــنيلُه .. تُشَفِّعُ ما تُــولي مِـنَ الوَفْرِ بالنَّــــــهْبِ
تُشَتِّتُ شَمْلَ المَرْءِ مِن بَعْدِ جَمْعِـه .. وَتَجْمَعُ شَمْلَ الحُزْنِ مِن كُـــلِّ ما أَوْبِ
ومَن يَكُ مِثْلِي ذَا فُؤاد مُشَـيَّـــــــع .. فَلَيسَ يُبــالـي بالشَّـــــــدائِدِ والكَــــرْبِ
يَكَرُّ عَلَيَّ الدَّهْرُ يَوما بِجَيـشِــــــه .. فَأمْـــنَحُهُ عَـــــــزْمِي وأمْنَعُـــهُ لُــــبِّي
فَتًى وَطَّدَتْهُ النَّائِباتُ عَلَى الأَسـى .. وَسَاعَدَ حَتَّى صَارَ كَالصَّارِمِ العَضْبِ”.