هكذا تتحول صناعة “ألعاب الفيديو” إلى ممارسة ثقافية وإبداعية.. تحديات ورهانات
قدّم بريندان كيو، الناقد الإعلامي والباحث المقيم في أستراليا، صورة أكثر دقة عن كيفية عمل الغالبية العظمى من صانعي ألعاب الفيديو، بشكل يكشف عن المجتمعات والهويات والأساليب المتنوعة وغير المستقرة التي جعلت إنتاج ألعاب الفيديو ممارسة ثقافية مهمة.
ونشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب محمد حسن، ذكّر فيه بمجموعة من الجوانب التي تطرق إليها بريندان كيو، خاصة ما يرتبط بـ”صناعة ألعاب الفيديو”، و”التحديات القائمة”، و”تحولات صناعة الألعاب”، متسائلا عما إذا كان مجال صناعة ألعاب الفيديو إبداعيا أم تجاريا، قبل أن ينصحَ طلابَ تطوير الألعاب بأن “ينظروا بمزيد من الاحترام لما يفعلونه كممارسة ثقافية إبداعية”.
هذا نص المقال:
رغم الفهم العام بأن صناعة ألعاب الفيديو هي تجارة ذات تكنولوجيا عالية تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وتديرها شركات كبيرة في بعض مدن أمريكا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا، فإن واقع الحال أن معظم ألعاب الفيديو تصنعها مجموعات صغيرة من الأشخاص الذين يعملون بميزانيات ضئيلة، ويعتمدون على منصات برمجية موجودة ومتاحة مجاناً، ويأملون دون جدوى في كثير من الأحيان في الصعود إلى النجومية، أي باختصار يعتبرون أنفسهم أشخاصاً يعملون مثل الفنانين.
انطلاقاً من هذا، يقدم بريندان كيو، الناقد الإعلامي والباحث المقيم في أستراليا، الذي ركزت أغلب كتاباته على تطوير ألعاب الفيديو وثقافات اللعب، في كتابه المعنون “صناعة ألعاب الفيديو غير موجودة: لماذا يجب أن نفكر في ما هو أبعد من إنتاج الألعاب التجارية؟”، صورة أكثر دقة عن كيفية عمل الغالبية العظمى من صانعي ألعاب الفيديو، وهي صورة تكشف عن المجتمعات والهويات والأساليب المتنوعة وغير المستقرة التي جعلت إنتاج ألعاب الفيديو ممارسة ثقافية مهمة.
صناعة ألعاب الفيديو:
بالاعتماد على الأفكار المقدمة من أكثر من 400 مطور ألعاب عبر أستراليا وأمريكا الشمالية وأوروبا وجنوب شرق آسيا، قدَّم الكاتب إطاراً جديداً لفهم إنتاج ألعاب الفيديو كمجال ثقافي بكل تعقيداته، وذلك من منظور: الهواة غير المتفرغين، والطلاب الطموحين، والمقاولين الذين يتعاملون مع العملاء، والأفراد المستقلين، ومجموعات الفنانين، إذ إنهم جميعهم لديهم مكان في هذا النموذج الذي وضعه الكاتب. في هذا السياق، يشير أيضاً إلى الترابط والاعتماد المتبادل بين أنصار صناعة الألعاب غير التجارية ونظرائهم التجاريين في مجال إنتاج ألعاب الفيديو.
ويضيف الكاتب أن هنالك تاريخاً طويلاً بين مجرد التفكير في الألعاب على أنها تقنية أو شركة “برمجيات ناشئة” وبين تفكير المطورين. فعندما تتحدث إلى هؤلاء المطورين المستقلين فهم لا يريدون في الواقع توظيف خمسين أو سبعين شخصاً، أو جذب الكثير من رأس المال الاستثماري، بل على العكس يريدون فقط الاستمرار في صنع الألعاب مع أصدقائهم بطريقة مستدامة من الناحية المالية أيضاً.
انطلاقاً من هذا، يجادل الكاتب بأن صناعة ألعاب الفيديو غير موجودة؛ وهو ما يعني أن صناعة الألعاب التي تطلق على نفسها اسم “الصناعة” لا يمكن أن توجد إلا من خلال استخراج قدر كبير من القيمة مثل: القيمة التجارية والإبداعية، والقيمة الاجتماعية من مجال أوسع بكثير من نشاط صناعة الألعاب. وبناءً عليه، من المهم أن يتم النظر للطلاب الدارسين لمجالات تطوير الألعاب كمبدعين حاليين، عن طريق تضمينهم في المحادثات الصناعية ذات الصِلة، ودعوتهم إلى تنمية مجتمعاتهم الخاصة التي تركز على الألعاب بما يتجاوز ما يتم تدريسه في الفصل الدراسي.
ووفقاً للكاتب، تُعد أستراليا نموذجاً يحتذى به لما تبدو عليه صناعة الألعاب عالمياً، بسبب انهيار الشركات الكبيرة في هذا المجال في مقابل سيطرة أشخاص مستقلين مبدعين على الصناعة. فبعد الأزمة المالية العالمية في العام 2008، انهارت الشركات الكبيرة الرائدة في الصناعة، وتم محو ثلثي وظائف صناعة الألعاب في جميع أنحاء البلاد، وهو ما أفسح المجال للشركات الصغيرة التي حققت نجاحاً باهراً في الصناعة، جعل التجربة الأسترالية تجربة فريدة ويحتذى بها.
نتيجة لهذا، باتت الغالبية العظمى من دول العالم لا تعتمد على الشركات الكبيرة لصناعة الألعاب، كتلك التي توجد في مدن معينة في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وشرق آسيا، بل على العكس أصبحت تعتمد على مجموعات من الناس تعمل على صناعة الألعاب في سياقات مستقلة أو صغيرة الحجم.
تحديات قائمة:
يؤكد الكاتب أن هنالك مجموعة من التحديات التي تؤثر في تطور صناعة ألعاب الفيديو، أبرزها التنافس الشديد بين المنتجين الذين يسعون إلى الحصول على الاعتراف والشرعية في هذا المجال. فمن جهة، يسعى المنتجون الثقافيون إلى إدراج أنفسهم في المجال الثقافي، والحصول على الاعتراف بأعمالهم، ومن جهة أخرى يسعون إلى الحفاظ على استقلاليتهم وتميزهم عن الشركات الكبيرة في هذه الصناعة.
علاوة على ما سبق، تتطلب صناعة الألعاب من المصنعين العمل بجدية والتعلم والتطور باستمرار، والتأقلم مع التغييرات في الصناعة والتكنولوجيا والثقافة مثل: ظهور المنصات الرقمية، وتشتت الجماهير بها، وظهور العمل المستقل كمطور ألعاب، وهو أمر محفوف بكثير من المخاطر، كالحصول على التمويل اللازم لإنتاج الألعاب وتطويرها.
ويشير الكاتب إلى أن التعددية والتنوع في مواقع إنتاج الألعاب تُعد من التحديات التي تواجه الصناعة بشكلٍ عام، لأنها أسهمت في ظهور مجالات عديدة للألعاب، ما يتوجب معه على صانعي الألعاب ابتكار ألعاب تعكس ثقافات وتقاليد مجتمعات مختلفة، وقضايا اجتماعية وسياسية وثقافية متنوعة. باختصار، أصبح من المهم تلبية احتياجات ورغبات اللاعبين والتعبير عن هويتهم الشخصية، وذلك باستخدام تقنيات وأساليب جديدة ومبتكرة.
تحولات صناعة الألعاب:
يلقى الكاتب الضوء على تحول صناعة الألعاب من عمل فردي إلى جماعي قائم على مجموعة من الأفراد الذين يعاون بعضهم بعضاً في الصناعة، ما يؤدى إلى تميز وتنوع هويات وثقافات منتجي الألعاب، ومن ثم يسهم في تنوع الألعاب المنتجة وتطوير صناعة الألعاب بشكل عام.
في هذا الصدد، يشير الكاتب إلى أهمية الابتكار والتكنولوجيا في صناعة ألعاب الفيديو، التي تتطلب استخدام التكنولوجيا الحديثة مثل: الواقع الافتراضي، والواقع المعزز، والذكاء الاصطناعي، لتطوير الألعاب وجعلها أكثر تفاعلية، إلى جانب تحسين تجربة اللاعبين ومساعدتهم على فهم هذه التقنيات وكيفية استخدامها بشكلٍ فعَّال.
وفي الواقع، لا يتوقف الأمر على استخدام التقنيات الحديثة فقط، بل تخضع الألعاب الرقمية لتحليل شامل للعديد من الجوانب الفنية والتقنية والاجتماعية والاقتصادية، من خلال فهم العملية الإبداعية والتقنية والتفاعلية التي تدخل في صناعة الألعاب، بالإضافة إلى فهم العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر فيها. وينتج عن تحليل هذه العوامل وفهمها بشكل أفضل تحسين صناعة ألعاب الفيديو وتطويرها.
ويرى الكاتب أن هذه الصناعة تتأثر بشكلٍ كبير بالعوامل الاقتصادية والسياسية المختلفة، مثل: السياسات الحكومية والتشريعات والضرائب والتجارة الدولية والعلاقات الدولية بشكل عام. فمن الناحية السياسية كانت الطريقة التي تمكنت بها ألعاب الفيديو من الحصول على شرعيتها الثقافية من السياسيين تعتمد على مقدار الأموال التي تجنيها الألعاب، وهو ما يمكن اعتباره نوعاً ما مجرد طريقة سهلة وسريعة للانطلاق.
في هذا السياق، يشير الكاتب إلى أن طريقة عرض صناعة الألعاب على أنها مربحة وتدر الكثير من مليارات الدولارات تحجب مستوى الدقة الذي تصنعه معظم الألعاب؛ نعم هنالك الكثير من المال، ولكن هذه الأموال مركزة بشكل كبير في [ناشرين] مثل: سوني ومايكروسوفت. بمعنى آخر، يجب أن ندرك حقيقة أنه ليس كل الأشخاص الذين يصنعون الألعاب يجنون الكثير من المال.
مجال إبداعي أم تجاري؟
بالنسبة للدعم الحكومي لصناعة ألعاب الفيديو يدعو الكاتب إلى ضرورة تغيير نظرة الحكومات من مجرد تمويل الألعاب لأنها تجني المال إلى النظر إليها على أنها ذات أهمية ثقافية جوهرية. لكن في العالم الحالي تحتاج جميع أشكال الألعاب إلى أن يكون لها نوع من التبرير التجاري للتمويل الحكومي، أي تنظر الحكومات للألعاب من منظور الربح والخسارة فقط، وهو أمر مؤسف -من وجهة نظر الكاتب- ولكنه كان نوعاً ما هو الواقع على مدار الثلاثين عاماً الماضية.
وحتى إذا كان الهدف من التمويل الحكومي للألعاب هو الوظائف والنمو، فمازالت الحكومات بحاجة إلى فهم الديناميكيات الخاصة بكيفية عمل الاقتصاد في قطاع ثقافي إبداعي بدلاً من قطاع التكنولوجيا. فلطالما ركز الكثير من التمويل الحكومي تاريخياً على نمو الشركة، وهذا أمر منطقي إذا كنت تدعم قطاعاً تكنولوجياً، لكن لا معنى له إذا كنت تدعم قطاعاً إبداعياً.
وأبرز مثال على هذا عندما تم الإعلان عن خصم ضريبة الألعاب الرقمية على جميع الألعاب الكبرى التي تنتجها الشركات الكبيرة في أستراليا التي تجني الكثير من الأموال منها، بجانب إلزام الألعاب المستقلة الصغيرة مثل فلورنسا أو بيبر بارك، وهي ألعاب تنتجها شركات ناشئة صغيرة، بإنفاق ما لا يقل عن 500 ألف دولار أسترالي كنوع من الضرائب؛ لكنها لا تتمكن من دفع هذه المبالغ. وهو ما يلفت الانتباه إلى أن هذا المجال الأوسع من النشاط الذي يحتاج إلى دعم من قبل الحكومات لا يكون مرتبطاً بنمو الشركة، بل ينظر إليه على أنه دعم مجال إبداعي وفني.
ويؤكد الكاتب أن صناعة ألعاب الفيديو شأنها شأن أي مجال إبداعي مهمة بنفس قدر أهمية جميع المجالات الفنية الأخرى، ليس فقط لأنها تدر قدراً كبيراً من الأموال، بل لأنها تساعد الأشخاص على التعبير عن أنفسهم، ورواية قصصهم، وفهم عالمهم واستكشاف قدراتهم ومهاراتهم، وهو ما يعنى أننا بحاجة إلى فهم ألعاب الفيديو كمجال إبداعي وليس تجاريا.
ورغم أن أغلب أبطال ألعاب الفيديو ينظرون إلى الإيرادات التي تحققها شركات ألعاب الفيديو الكبرى على أنها دليل على أن ألعاب الفيديو لها أهمية في الواقع. لكن هذا القياس المالي لقيمة ألعاب الفيديو بعيد كل البعد عن الطموحات الفردية وظروف العمل الخاصة بالمبدعين والمطورين في هذه الصناعة، الذين يسعون إلى تطوير مهاراتهم وابتكار أفكار جديدة بصرف النظر عن الناحية المالية.
ومع ذلك، أعرب العديد من صانعي الألعاب الذين تم إجراء مقابلات معهم عن أهمية الوعي السياسي حول كيفية استخدام خطاب العاطفة والإبداع منذ فترة طويلة لاستغلال صانعي الألعاب المحترفين ودفع أجورهم المنخفضة، مع الرغبة الواضحة بقوة في إعطاء الأولوية لتحسين مهاراتهم وقدراتهم لتطوير مجال صناعة ألعاب الفيديو كمجال إبداعي ثقافي.
ختاماً، ينصح الكاتب طلاب تطوير الألعاب بأن ينظروا بمزيد من الاحترام لما يفعلونه كممارسة ثقافية إبداعية، والتحقق من الواقع عند قيامهم بالتسجيل للحصول على درجة علمية في تطوير اللعبة، والتعامل مع الأمر بأنه أشبه بمحاولة أن تصبح شاعراً، أو أن تصبح ممثلاً أو موسيقياً بدلاً من التعامل معه كمسار للتوظيف، حيث تعتبر دراسة تطوير الألعاب مثل دراسة الكتابة الإبداعية.