شحلان يكتب عن إبادة فلسطين .. جندي “عربي إسرائيلي” في معركة الخَبَل
لم يتحرك الزمن منذ 20 سنة، أو ستة وخمسين، أو خمسة وسبعين، تستمر مأساة الشعب الفلسطيني برصاص وقنابل وسياسات الاحتلال الإسرائيلي.
في سنة 2002 كتب الأكاديمي المغربي المتخصص في العبرية أحمد شحلان نصّه هذا، ولا تزال مضامينه راهنة في سنة 2023.
صاحب “التوراة والشرعية الفلسطينية” تتوالى في نصه هذا درجات الألم والقهر، شيءٌ من “تفاهة شرِّ” الاتباع الأعمى للأوامر، وشيء من الثمل الزائف بنياشين بطولة الزور والتسميات الزائفة (أيّ دفاعٍ يتسّمى به جيش محتل!؟ وأيّ إرهاب يوسم به شعب لا يبتغي إلا أرضه!؟)، وشيء من خطيئة القصص الممهّدة للتوحّش، وكثير من الدماء والآلام والمآسي المتجددة.
هذا نصّ ما كتبه أحمد شحلان:
جندي عرائيلي (عربي إسرائيلي) في معركة الخَبَل
أحمد شحلان
حاصرت قوات الاحتلال الإسرائيلي كنيسة المهد في مدينة بيت لحم جنوب الضفة الغربية، ما بين 2 أبريل لغاية 10 مايو 2002. عندها كتبتُ هذا النص وهو يصور حالة ضابط إسرائيلي يقصف من مروحيته “الأباتشي” بيتَ لحم، وضابط من الجانب الآخر يتتبع المعركة من شاشة تلفزته، كل منهما يراجع تاريخه، أحدهما يفعل والآخر ينفعل. يتكرر اليوم المشد نفسه، الضابط في مروحيته، يقصف الكنيسة والمسجد، والآخر أمام التلفزة، الزمان لم يتحرك..
1
الضابط
الظلام يُغْرقني، الدخان والغبار والأتربة تَخْنقني، أَنِين الْجَرحَى وعَوِيلُ الثَّكَالَى ورَجُّ الردم يرهبني، هدير الدبابات وانفجار القذائف يصعقني. أي شيء أنا؟ أين أنا؟ من أكون؟… يعذبني صوت رهيب من داخلي ولا أعرف من أنا. وينادي فِيَّ صوتٌ مكبوت مبحوح: “مُدَّ يدك نحو كتفك تعرف من أنت”. أتحسس بيدي كتفي فتلمس أصابعي أنجما سداسية تذكرني بأني قائد جيش الدفاع، الدفاع…؟ عن مَن؟ مِمَّنْ؟ أي كابوس أنا فيه؟ أي ساحة حرب سرابية هذه أنا بطلها؟
الآخر
الظلام يُغْرقني، الدخان والغبار والأتربة تَخْنقني، أَنِين الْجَرحَى وعَوِيلُ الثَّكَالَى ورَجُّ الردم يرهبني، هدير الدبابات وانفجار القذائف يصعقني. أي شيء أنا؟ أين أنا؟ من أكون؟… يعذبني صوت رهيب من داخلي ولا أعرف من أنا. وينادي فِيَّ صوتٌ مكبوت مبحوح: “مُدَّ يدك نحو كتفك تعرف من أنت”. أتحسس بيدي كتفي فتتلمس أصابعي أنجم الرتب السامية تذكرني بأني قائد في جيش، جيش مَن؟ ولمن؟ أي كابوس أنا فيه؟ أي مشهد يجرفني من هذا الصندوق الأهوج (التلفزة)؟
2
ويفر مني عمري ليخرق الزمان، وإذا بي أتقلص حجما في جِسْم، وأسمع فـِيَّ بكاءَ الطفل الذي كنته. وإذا بي أسمع صوت جدي المتلفع بوشاح الصلاة، دامع العين، وهو يقرأ التوراة ويردد في صبح ثلجي تجمدت فيه أعصاب نهر “الفولكَا”: “نحن حثالة منبوذة مقهورة مسحوقة، نحن قِمامة الأمم، نحن…”. ويهزني أنين طفل تحت الأنقاض، لا هو مني ولا أنا منه، وإن كانت أوامري هي التي قطعت أوصاله. أي ساحة حرب هذه أنا بطلها؟
ويفر مني عمري ليخرق الزمان، وإذا بي أتقلص حجما في جِسْم، وأشهد فِيَّ فرحةَ الطفل الذي كنته. وإذا بي أسمع صوت جدي الفقيه في محرابه يصلي الصبح في أيام ربيعية مزهرة وهو يقرأ القرآن ويردد: “نحمد الله الذي جعلنا من أمة المجد وأدام عزته على من يسبح ويشهد”. ويهزني أنين طفل تحت الأنقاض، وهو مني وأنا منه، وإن كان ضعفي هو الذي قطع أوصاله. أي مشهد في هذا الصندوق الأهوج يجرفني؟
3
تزداد أركام دبابات الحرب وسواحقها وهي تزهو بِمِجَنِّ داود السداسي، زرقةً في بياض، تُزَمْجِر تُدَمْدِم تُدَمِّرُ تَمْحَقُ تَسْحَقُ، ولا أعرف ما أنا فيه، ويفر مني التاريخ ليخرق الزمان، وإذا بنا أسباط استبد بهم قهر العهود، فسرنا أشتاتا رُقَعاً طوَّحَ بنا الدهر في فيافي الاحتقار وجزر اللَّعْن…، وأذوب في دورة الزمان أَسِيح أسيح أسيح، وتشد شِسْعَ حذائي يدُ عجوز من فوقها ركام ومن تحتها ركام، وأسقط في ساحة معركة جُنْدُها بلا نِدٍّ، يجللني الخزي والعار، تجذبني هذه العجوز التي تنـادي “وا معتصماه”، أتمرغ في الوحل وأجيبها: “أنا لستُه ولا أعرفه”، فتقول وقَطْرُ الموت يسيح من جرحها: “أنـ..ـا أعـ…رف أنـ…كـ لسـ..ـت هـ..و ” وتموت. أي حرب سرابية هذه أعيشها؟
تزداد أركام عربات الحرب وسواحقها وهي تزهو بِمِجَنِّ داود السداسي زرقةً في بياض، تُزَمْجِر تُدَمْدِم تُدَمِّرُ تَمْحَقُ تَسْحَقُ، ولا أعرف ما أنا فيه، ويفر مني التاريخ ليخرق الزمان، وإذا بنا أفخاذ وعشائر وقبائل يناصر بعضنا بعضا، نتنادى “أنصر أخاك ظالما أو مظلوما”، ثم سرنا أمة فاخرت الدهر بدين هو المساواة في جاهلية قَيْنٍ استعبدوه في شق بطن الأرض، حتى إذا ملأ أَهْرَاءَ الجشع سخروه للقتل…، وأذوب في دورة الزمان أسيح أسيح أسيح، وتجر شعاعَ بصري صرخةُ عجوز من فوقها ركام ومن تحتها ركام، وأسقط أمام شاشة معركة جندها بلا ند، يجللني الخزي والعار. تستغيثني هذه العجوز وتنادي “وا معتصماه”، أغض الطرف وأجيبها: “أنا لسته ولم يعد عندي ذكرى”، فتقول وقطر الموت يسيح من جرحها: “أنـ..ـا أعـ…رف أنـ…كـ لسـ..ـت هـ..و”. يعرق مني الجبين وأصيح أي صندوق هذا الذي أشهده؟
4
تتدافع جحافل الصدأِ والْأَجْنَاد، نحو كنيسة المهد، تعوي تـَزْأَرُ تَنْهَق تَصْهَلُ تَخُور، وينفخ النافخ في البُوق، فَتَرْتَجُّ الدنيا من أقصاها إلى أقصاها، ويد الراهب ثابتة تدق النواقيس، ويجذب الراهب الحبل، وينفخ النافخ في البوق، ويجذب الراهب الحبل، ويَبُحُّ البُوق، ويجذب الراهب الحبل ليوقد نُوَّامَ الدهر من ساحق العهود، فأرى فِرْعَوْنَ الْمَصْر على عرباته يتهاوى في الْيَمِّ وقد انفلق العباب. وأرى “نبوخدنصر” في جيش عرمرم، يقود أرطال الأسارى في طرقات “بَابِل وقد أثقلت أحماله القوافل. وأرى “تيتوس” إمبراطور روما، يُطَوِّقُ أسوار القدس سنين، وأذكر أنه لم يستطع قهر محاصري “المصعدة” (مرتفع حوصر فيه اليهود ولم يستسلموا). ثم رأيت أعلام “الرَّاْيخ” تعبث في “ليلة الكريسطال” (ليلة هُوجم فيها يهود ألمانيا والنمسا وعديد من بلاد أوروبا الشرقية) ثم تنشر ظِلا مُرهباً في “أُوتْشْفِيش” وأزقة “الكَيتو” (حي اليهود في أوروبا) العفنة. وتذكرت أبطال “فارسوفيا” و”الكَيتو” من بني جلدتي يُرَوِّعون ويُرَوَّعون، وتيقنت بأن المظلوم لا يقهر، وعندها شددت الزناد شددت الزناد، فتراخت أصابع الراهب صَـ..مْـ..ـت، ويصمت دق النواقيس، وأعود إلى نفسي. أي جندي أنا أتزيى بزي الرُّومَان؟ أي قناص أنا أَقْنِصُ بحراب “الرايخ” حراسَ كنيسة المهد؟ وترهبني تهمة قتل المسيح وهو بعد في المهد صبيا…أي حرب سرابية قدرة أنا فيها؟
تتدافع جحافل الصدأ والأجناد، نحو كنيسة المهد، تعوي تـَزْأَر تَنْهَق تصهل تخور، وينفخ النافخ في البوق، فَتَرْتَجُّ الدنيا من أقصاها إلى أقصاها، ويد الراهب ثابتة تدق النواقيس، ويجذب الراهب الحبل وينفخ النافخ في البوق، ويجذب الراهب الحبل، ويبح البوق، ويجذب الراهب الحبل ليوقد نوام الدهر من ساحق العهود، فأرى عمر ابن الخطاب يأبى أن يصلي في الكنيسة، وأراه يعقد المواثيق لسكان “إليا” (القدس)، وأرى صلاح الدين يُفْسح في المجلس لأحبار القدس، يسعف ضعفاء الدِّير بعد أن مسح دمع الْبِيَّعِ والمساجد وهدأ من روع الكنائس. وأرى أهلي في بلدان المساجد، يمسحون دمع عين قراء التوراة لما هصرهم الصليب المعقوف هصرا، وأرى مَلِكا من مغارب الأرض يصفع حاملي الصلبان المعقوفة، حين يُجلس أحبار بلاده في الصدارة في يوم عيد… وعندها أهصر كأس شاي هصرا، وأرشف غارقها من ثمالته، فتتراخى أصابع الراهب، ويصمت دق النواقيس، وأعود إلى نفسي، أي جندي أنا مثقل بأحمال النياشين؟، أي ثمل أنا بـ”النخوة” أشهد كنيسة المهد تحرقها نيران نيرون؟ ويرهبني أن أشهد قتل المسيح وهو بعد في المهد صبيا… أي صندوق هذا الذي أشهده؟
5
أغرق في الرَّجِّ ويبتلعني موجٌ من بحر الرَّجِّ، رَجِّ زَوَاحِف الحديدِ ورَجِّ الصَّدَى الرهيب، ورَجِّ دق النواقيس، ويَنِطُّ بي فرس “الأباتشي” فوق “جِينِين”. نار من فوقها وقادةٌ ونار من تحتها وقادةٌ، والأرض “تُوهُو بُوهُو” (عبارة توراتية معناها “خراب”، وأنا أقرأها عبرية عند البدء في الخلق. والأرض “خراب يباب” وأنا أقرأها بلغة كل الناس. الدَّكُّ من يمين ومن شمال، الدَّكُّ من أعلى ومن أسفل، أَحْرِقُ الحجرَ واقلع الشجر، مَا الزَّاحِفُ اليوم بزاحف، ولا الدَّابُّ اليوم بداب، ولا الطائر اليوم بطائر. ينقلب التاريخ، تعود الأرض “توهو بوهو”، لا مكان اليوم للخلق، إنها القيامة…وتبا للتوراة. تتيه الجموع على غير هدى، وأرى فيهم جدي التائه في دروب أوروبا القرون الوسطى، جدي يتبعه السوط وهو يحمل قِرابَ المُرَابي، جدي يغتسل بدم الفصح في أعياد صُفْر، جدي من يهوذا إلى تروتسكي يَطَّوَّفُ في أزقة “سان بِرْتْسْبوركَ”، “بوكَـْروم” في “بوكَـْروم” (يعني لفظ “بوكَـْروم ؛pogrom، بالروسية اضطهاد اليهود)، ويفر جدي من شرق الكنيسة إلى شرق الجغرافيا، “عاليا رِشُونَا”= (هجرة التيه الأولى). وتضج الدنيا، هذه أرض بلا أهل، هذه أرض فراغ،… نار نار نار ووعد “بلفور” يجلجل في سماء بلا نجوم. جدي يَنْسِل “هَاكَانَا” (فرق إرهابية قتَّلت الفلسطينيين في بداية الاحتلال)، ينسل نقمة أخطأت باغضيه في التاريخ، فذَبَّحَتْ من يبغضهم هو في دير ياسين. جدي ينسل نقمة، سقطت نارا على قناة السويس، وهبت سَمُوما في ستة أيام بلا سابع… اضرِبْ “أباتشي”…، تَدَاعَى الهيكلُ… أحرِقْ “أباتشي” انْفَرَطَ عقد “الكَـِيتو”… دمِّرْ “أباتشي”، “أوتشفيتزُ” لطخةُ “الرايخ” رائحةٌ نَتِنـةٌ… دمِّر “أباتشي” صوامعَ المساجد والكنائس… أحرِق غياضَ الزيتون والتين… أَقْلِعْ الحجر، امحق البشر… دمر دمر دمر، أي حرب قدرة يؤدي فيها جدي بقراب رِبَاُه ثمن “الأباتشي”؟ أي حرب قذرة أنا فيها أستعير البغض من التاريخ لأَكْره بالوكالة؟
أغرق في الرَّجِّ ويبتلعني موجٌ من بحر الرَّجِّ، رَجِّ زَوَاحِف الحديدِ ورَجِّ الصَّدَى الرهيب ورَجِّ دق النواقيس، ويَنِطُّ بي فرسُ امرئ القيس نَطْرُق أبواب السموأل، أحبةً في الأرض وإخوةً في بديع القول، وأنشودةً رائعةً في الوفاء. تفترق بنا مسالك المعتقد وتجمعنا هموم العيش، مِنَّا إليهم رهن دِرْع، ومنهم لنا عطاء حمِىَ، هم لنا مَعْبَرُ دراية في الدهر حينا، وقصر الخليفة لهم من دمشق إلى مراكش مَرْتَعٌ دوما. هم اللعنة في أَرْبَاض الغرب، وعندنا هم جُلَّاس كرسي السفارة والوزارة والكتابة. هم في أرباض الغرب جَهْل، وعلمُنا لهم في الدوحة اليانعة خضرةً، مستقرٌّ ومتاع بلا حين. ها التائه المتخفي يلبس عباءة الحرير، هو “أمير” هو “أمير”. من ابن سهل إلى ابن ميمون، في رياض الزهراء ومزاهر غرناطة وجنان فاس ومسالك القاهرة، لم نشهد منهم فينا من يغتسل بدم الفصح في أعياد صفر… يُعربد التاريخ تضج الدنيا، هذه أرض بلا أهل، أرض فراغ، نار نار نار ووعد “بلفور” يجلجل في سماء بلا نجوم، ويحمل جدي روحه بين يديه وبندقية بلا منافذ على كتفيه، يضرب يسقط يضرب يسقط. وتُكَبِّل رجلَيْ أبي خيوط التآمر، يحمل وحده نقمةً أخطأت باغضيها في التاريخ، يضرب الطَّوْقَ عن المضايق، ويقرأ صحيفته مغلوطة مقلوبة، عندها يتذكر “موسى” طريقَ التيه، ويقطع “سينا” الأربعين عاما في ستة أيام بلا سابع… أُخْطُبْ خطبتك الفصيحة ولا تخف، بكلماتها تقهر “الأباتشي”، تعيد صوامع المساجد والكنائس، تزرع غياض الزيتون والتين، ترفع الحجر فوق الحجر، تعيد بسمة البشر. أخطب أخطب أخطب أي محفل أنا فيه؟ وألعن هذا الصندوق الذي أشهده.
6
(حوار مزدوج)
*- شُدَّ الخناقَ، عَمِّق الخنادق وشد الوثاق، أَأْسِر الأمير ومزق الكُوفِيَّة، عنف “القيامة و”المهد” و”الصخرة”، أَرْكِعْ الصوامعَ من علياء تكبيرها واخْرِسْ نواقيسها…
– أي مجنون أنا، وأحمل على “المهد” وأرى في ساحته العشاءَ الأخير، ومن بعيد أرى يهوذا يسرق الخطى…،
– شد الخناق، ما كان هناك يهوذا يا هذا، قَلِّبْ الإنجيلَ على ضوء “الأباتشي”.
**- وأُقَلِّبُها فيتراءى لي يهوذا يتسلل ينساح من مداد النُّسَّاخ يغادر الأناجيل، وتتراءى أماكن اسمه بيضاء ناصعة على الورق…
– أصيح: سيبحث هواة علم آثار “اللوغوس” عن الأسماء في مقبل الزمان.
*- وماذا يعنيك مقبل الزمان؟ سنكتب قصة مليئة بالدموع، سنقرأها على الناس: “شتتنا “المهد”، قامت علينا “القيامة”، أدمتنا “الصخرة” من يد الأطفال، جُنَّ جنون “جِنين” علينا، أدمت “بيتُ لحم” لحمَنا، نِبَالٌ “نابلس” في قلوبنا…”. شد الخناق وانظر خلفك على ضوء “الأباتشي”.
**- وأنظر وأرى البابا يربت على كتفي يهوذا ويدعو له بالسلامة، ويقول: “ظلمناك يا بني”.
*- شد الخناق عنف “القيامة و”المهد” و”الصخرة”، أركع الصوامع من علياء تكبيرها وأخرس نواقيسها، ففي التاريخ دوما من يقول “ظلمناك يا بني”. هدِّم عمق الخندق…
**- وقانون الناس؟ وقانون الحرب؟… الدنيا حقوق، وحقوق الناس….؟
*- ويلك أي ناس؟ أأنت في حرب؟، أنت لست في حرب، أنت بطل الدنا تقهر الإرهاب، أنت “شمشون” (بطل يهودي في التوراة) أنت “برخوربا” (ثائر يهودي ضد الرومان)، أنت لست في الأفراد “كَـُويْ” (أجنبي محتقر) ولا في الجماعات “كَـْوِيَّم”. أنت فوق القانون والاعتبار وخارج المنطق. أنت لست رقما من الأرقم. أنت الفريد المختار…
– وأدمر وأعمق الخنادق وأدمر…، ويرتفع البنيان سرابا سرابا، وتقوم “القيامة” من “المهد” جبالا من “الصخرة”، وتتردد الآذان وتدق النواقيس وتظلل الكوفية أقطار السماء، ويزمجر صوت أقوى من “الأباتشي” يقول: “ما يهزك ريح يا جبل”.
وإذا بي أسمع صوت جدي المتلفع بوشاح الصلاة، دامع العين، وهو يقرأ التوراة ويردد في يوم قدسي غامت سماؤه بدخان “الأباتشي”: “هل نحن حثالة منبوذة مقهورة مسحوقة، هل نحن قمامة الأمم…”.
– اضْرِب،
– ماذا بقي لأضرب؟
– لا يعنيك، أوامر الرئيس.
– أي فيهم؟، فهم كثر. أي حرب قدرة أنا فيها حَطَبُ نقمة الرؤساء؟ وأضرب وأضرب إلى أن تأتي البعثة التي لا تأتي.
– أفسح في مجلسك فهذه حرب تطول. وابك الأمير الأسير، واكتب شعرا في “القيامة و”المهد” و”الصخرة”. وقف به على ذكرى دوارس الصوامع والروادم، “فهل غادر الشعراء من متردم”؟
– أي مجنون أنا، وأفسح في المجلس فتتراءى لي حلقات الذكر ومجالس العلم من “بخارى” إلى “تَامْبُكْتُو”، فيها القول الفصل والصدع بالجهاد. وأفسح في المجلس فتتراءى لي مرابط الخيل حَيْرَى عَرْقَى ثَكْلَى تصهل تصك الأَلْجِمَة ترفض الذل، وأرى صلاح الدين على رأسه كوفية بيضاء سوداء بين ُخْرَدة الدبابات، من خلفه هَرَج الذي لا يُقهر، ومن أمامه صمت الذي لا يَنْصُر… وأراه يمتنع أن يكون أسيرا قتيلا إنما هو…
*- استيقظ يا هذا، ليس هنا صلاح دين، الإرهاب ممنوع، عُرِف يسَّرناه للناس.
**- وأُقَلِّب كتب التاريخ على ضوء هذا “الصندوق الأهوج”، فيتراءى لي صلاح الدين يرتدي الكوفية لا يتسلل لا ينساح من مداد النُّسَّاخ لا يغادر التاريخ، ويتراءى اسمه بياضا ناصعا على الورق… ويسألني سائل من أعماق هذا الصندوق، وعماذا سيبحث أهل التاريخ في مقبل الزمان، عندما تتحدث “هوليود” عن رجل لاَدُنِّيِّ النِّحْلة قاعدي المذهب ينشر الإرهاب؟، وعندما يطلب من عُمَّار الْـحَيِّ أن يكونوا “مع” أو “ضد”؟، عندما يقال لهم “الكون لا يحتمل الخير والشر معا، فاختاروا الحزب الذي تكونونه…”، ولا يمهلني الصندوق الأهوج الذي يبتلعني لأفهم أو أجيب، فأنظر وأرى ساكنَ البيت الأبلق يربت على كتفي “يهوذا” ويدعو له بالسلامة، ويقول: “ظلمناك يا بني فأنت وحدك رجل السلام”.
*- أفسح في مجلسك فهذه حرب تطول. وابك الأمير الأسير، واكتب شعرا في “القيامة و”المهد” و”الصخرة”، وقف به على ذكرى دوارس الصوامع والروادم، “فهل غادر الشعراء من متردم”؟
**- وأسأل: وقانون الناس؟ وقانون الحرب؟…
*- ويلك أنت لست ناسا، أنت شغب، أنت من أهل الإرهاب، أنت “جالوت”، أنت في الأفراد “كَـُويْ” (أجنبي دوني) وفي الجماعات “كَـْوِيَّم”. أنت دون الاعتبار ومُحْتَقر في المنطق، لست إلا صفرا في الأرقام. أنت الفريد اللامختار…
**- وأفسح في مجلس لحرب تطول، وأبحث في “عين” الخليل عن لفظ الشهادة ولا أجده، وعن لفظ الجهاد ولا أجده، وعن لفظ التحرير ولا أجده، إن “العين” أصيبت بالرَّمَد. وأبحث في “لسان العرب” فأجد “اللسان” بلا عرب، ولا أجد إلا “الإرهاب” و”السلام” بمداد ممسوخ شاحب به ضَرٌّ من سُلِّ القهر والزيف. وأصيح هذه ليست لغتي ولا هذا لساني…
وإذا بي أسمع صوت جدي الفقيه في محرابه يصلي المساء في أيام خريفية مقفرة من الجذب وهو يقرأ القرآن ويردد: “كنا أمة المجد وكنا أعزة، “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”.
أتحسس نياشين الرتب على كتفي، وأسمع “وا معتصماه” من بعيد بعيد تتوارى في البعد، وأرى فرس صلاح الدين يلفه السراب ويعنفه ثقب “الأوزون”، وأتحامل لأترك هذا المجلس فقد طال الجلوس…
*- “اجلس”، من خلف الصندوق الأهوج أسمعها.
**- لماذا أجلس فقد طال الجلوس؟
*- لا يعنيك، أوامر الرئيس.
**- أي فيهم؟ فهم كُثْرُ. وأكبس زِرَّ الصندوق الأهوج وأنام…، فاستعد لبعثي يا ولدي ويا حفيدي.