ياسين عدنان: “الحصار الفيسبوكي” آلة عمياء
قال الأديب والإعلامي ياسين عدنان إن كتاب “الحصار الفيسبوكي”، لصاحبته الشاعرة كريمة دلياس، رد فعل نفسي تجاه “فيسبوك” بعدما عمدت إدارة هذا الأخير إلى حظر صفحتها على هذه المنصة إثر إعلان الكاتبة المغربيّة تضامُنها مع القدس وأهالي القدس بعد أحداث حيّ الشّيخ جرّاح.
وأوضح عدنان في تقديم المؤلف الصادر عن دار إفريقيا الشرق، أن الكتاب لم يكن مخططا له ولم يأت هكذا منذ البداية مرتّب الأفكار واضح المعالم، بل “تطوّر بالتّدريج مُواكِبًا الحالة النّفسيّة لمؤلِّفته ليفتحَنا على تحليل ظاهرة الحجر الفيسبوكي وتفكيك قِطَع غيار هذه الآلة العمياء التي تُقرّر الحظر وتُطبّقه”.
وهذا نص التقديم:
كان يمكن لهذا الكتاب ألّا يكون. فكلّ ما كانت الكاتبة المغربية الصّديقة كريمة دلياس تحتاجُه يومَ اتّصلَتْ بي مصدومةً من جرّاء حَظْرِ صفحتها على فيسبوك هو فضاءٌ تبثُّ فيه شكواها ووجعها وإحساسها بالقهر.
لكنّ فيسبوك-هذا الملاذ الذي اعتادت جحافل المقهورين في بلادنا العربيّة وعبر العالم اتّخاذَهُ فضاءً للشّكوى والأنين-منَعَها من هذه الفرصة لتظلَّ زفرتُها مكتومةً في الصّدر وصرختُها محبوسةً في الحلق.
فهذه المنصّة التي اعتُبِرت منذ تأسيسها منبر من لا منبر له، يطلق منها الفيسبوكيون من مختلف الجغرافيات والأجناس صرخاتهم واحتجاجاتهم فيحشدون تعاليق التّعاطف والمؤازرة، أضحت بالنّسبة للمواطنة الفيسبوكية كريمة دلياس وكأنّها سيف الدّولة في قصيدة المتنبي الشّهيرة: “فيكَ الخِصامُ وأنت الخَصْمُ والحَكَمُ”. بيْد أنَّ سيفَ الدّولة أتاح للمتنبي، مع ذلك، أن يُواجهه بالتّظلّم شعرًا عبر قصيدةٍ أنشدها في مجلسه. أمّا فيسبوك فقد غلق في وجه كريمة كلّ منافذ التّظلّم والاحتجاج. حدث ذلك إثْر إعلان الكاتبة المغربيّة تضامُنها مع القدس وأهالي القدس بعد أحداث حيّ الشّيخ جرّاح. وكان هذا الحيّ المقدسيّ قد تعرّض سنة 2021، بالضّبط في شهر رمضان، لِهجمات مُمَنْهجة من قِبَل وَحَدات شرطة الاحتلال الإسرائيليّ مْسْتَعينين بمُستوطِنين مُسلَّحين، عزلوا هذا الحيّ في حصار غاشم، واقتحموا بيوت أهله بالقوَّة لترحيلهم غصبًا. تضامُن الكاتبة مع ضحايا هذا التّهجير القسري جاء عفويًّا، ومنْعُها من إعلان هذا التّضامن على صفحتها الفيسبوكية أزعجها فأصرّت على التّعبير عن انزعاجها. إنّما أين؟ وعبر أيّ وسيط؟
ما كان يمكن للكاتبة المغربية أن تُطلِقه في زفرة لن تتعدّى حدود التَّدوينة العابرة على فيسبوك ظلّ يعتمل في دواخلها فكانت الحصيلةُ هذا الكتاب. كتابٌ لم يُخَطَّط له أبدًا، ولم يأت هكذا منذ البداية مرتّب الأفكار واضح المعالم، بل تطوّر بالتّدريج مُواكِبًا الحالة النّفسيّة لمؤلِّفته. من هُنا بدايَتُه الانطباعيّة، التي تهجِسُ بردِّ فعل نفسيّ للكاتبة تجاه فيسبوك، قبل أن تعكف على تدوين يوميّات الحظر الفيسبوكي. وهي تدوينات ذاتيّة بسيطة أعادَتْ كريمة دلياس إلى دفترها الشّخصيّ حينما غُلِّقَتْ في وجهها أبواب فيسبوك وحِيلَ بينها وبين جداره الأزرق، ثم تطوّر الكتاب مع اتّضاح رؤية الكاتبة وتبَلوُرِ موقفها الفكريّ ليفتحَنا على تحليل ظاهرة الحجر الفيسبوكي وتفكيك قِطَع غيار هذه الآلة العمياء التي تُقرّر الحظر وتُطبّقه.
وبالتّدريج، غادرت كريمة ذاتها الصّغيرة وتجربتها الشّخصيّة لتُتابِع قضيّة الحظر الفيسبوكي في شموليّتها، تستقصي وتبحث وتنفتح على تجارب الآخرين مع الحظر وتجمع شهاداتهم، خصوصًا بعد العمليّة التي أطلقت عليها إدارة فيسبوك اسم “حملة المحتوى الفلسطينيّ” فوضعَتْ بموجبها خوارزميات في نظام البرمجة تَرصُد كلّ الكلمات والرّموز الممنوعة التي لها ارتباطٌ بهويّة وحضارة فلسطين وتُستخدَم إلكترونيًّا لدعم القضيّة الفلسطينيّة، ممّا سهّل على فيسبوك تضييق الخناق بشكل مُمَنهج على نشطاء القضيّة الفلسطينيّة والمتعاطفين معها عبر العالم. هذا التحوّل في النّظر والمعالَجة، وهذه الإحاطة التي صارت أكثر شموليّة أكسبا الكتاب في النّهاية قيمةً خاصّة باعتباره شهادةً جماعيّةً لا فرديّةً فحسب، وفضحًا قويًّا لأوهام الحرِّيّة الإلكترونيّة التي لازمَت فيسبوك وغيرَه من مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وتفكيكًا نبيهًا لأوجُهِ الرّقابة والحصار الإلكترونيّين وأصنافِ المتاريس الرّقميّة التي يستعين بها فيسبوك للتّضييق على المحتويات التي لا تُوافق “هواه” السّياسيّ، وكذا لمختلف آليات المنع الفيسبوكي وأشكاله، ثمّ نقْدًا رصينًا غير متشنّجٍ لمنطق الكيل بمكيالين الذي يتعامل به الغرب ومؤسّساته-الواقعيّة منها والافتراضيّة-مع قضايا العالم العربيّ والإسلاميّ.
كان يمكن لهذا الكتاب أن لا يكون. لو فقط أبْدَتْ إدارة فيسبوك بعض الرِّفق وأتاحت لكريمة دلياس يومها أن تكتب تدوينة أخيرة تطلق فيها زفرتها لارتاحت وأراحتهم. لكنّ القسوة العمياء التي تعرّضت لها كاتبةٌ آمنَتْ بالمعجزة التّواصليّة الإلكترونيّة وصدَّقتها وسكنت إليها واستثمرت فيها أدبيًّا وإنسانيًّا، جعلتها تردُّ بقوّة. فكان هذا الكتابُ الصَّرخة. صرخة مدويّة لا شكّ ستترُك أثرها في عقل القارئ ووجدانه. وأهمّ شيء هو أنّ الكاتب الحرَّ يمكنه أن يصرخ عاليا بصوتٍ مُدوٍّ لا لأنه جبَّارٌ مقتدر، ولكن لأنّ الحقّ، هذا الأبْلجُ، يُنطِق أهْلَه.