أخبار العالم

بوقنطار يقارب “حرب حماس وإسرائيل”.. انتصار التخطيط البشري وفشل التجسس



وصف الدكتور الحسن بوقنطار الهجوم الذي شنته كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، بـ”الكاسح” و”الزلزال” الذي لم تعرف إسرائيل له مثيلا منذ 1948، مؤكدا أن هذا الهجوم يؤشر على استعدادات وتخطيط طويل الأمد قامت بها الكتائب، كما يؤكد إخفاق المخابرات الإسرائيلية وفشل أنظمة التجسس.

وأضاف بوقنطار، في مقال توصلت به هسبريس معنون بـ”المواجهة العسكرية بين حماس وإسرائيل.. استنتاجات وتساؤلات”، أن ما وقع يبين بالملموس أن الاستخبارات التكنولوجية ليست دائما فعالة، ولا يمكن أن تكون بديلا للاستخبارات البشرية المعتمدة على القرب، وهو أمر يطرح ضرورة التوازن الصعب بين هذين البعدين في العمل الاستخباراتي.

وهذا نص المقال:

ربما أكثر من صدمة حرب أكتوبر 1973 التي استطاع خلالها الجيش المصري اجتياز خط بارليف، فإن الهجوم الكاسح الذي قامت به كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، شكل زلزالا بالنسبة لإسرائيل لم تعرف مثيلا له منذ تأسيسها سنة 1948، حيث إلى جانب إطلاق مئات الصواريخ، تمكن عدد من المقاتلين من اجتياز السياج الفاصل بين القطاع وعدد من المدن الإسرائيلية، والتسرب إليها بشكل خلف الكثير من الرعب والضحايا العسكريين والمدنيين. أكثر من ذلك، تمكنوا من أسر عدد من العسكريين والمدنيين الذين قد يشكلون أدرعا بشرية في حالة هجوم بري إسرائيلي.

تسمح الوقائع المتراكمة لحد الساعة من الخروج ببعض الاستنتاجات، لكنها في نفس الوقت تظل حبلى بالتساؤلات حول تداعيات هذا الهجوم، سواء على الطرفين أو على المحيط الإقليمي برمته.

أولا: بعض الاستنتاجات الأولية

من الواضح أن عملية من هذا الحجم لا يمكن أن تكون وليدة اليوم، بل هي نتاج ترتيبات واستعدادات وتخطيط طويل الأمد، سمح لها بتحقيق الأهداف المرسومة، والمتمثلة أساسا في خلق حالة من الرعب وزعزعة طمأنينة المجتمع الإسرائيلي، الذي كان يعتقد أن قواته المختلفة نجحت في ترويض مختلف الحركات الفلسطينية، وتجميد القضية الفلسطينية برمتها.

في مقابل هذا العمل المنسق، برز بالمقابل إخفاق المخابرات الإسرائيلية في توقعها، بالرغم من الإمكانيات التكنولوجية وأنظمة التجسس التي تتبجح باستعمالها. وكما كان الأمر بالنسبة لإخفاقات سابقة، من المنتظر أن تتشكل لجنة للتحقيق لتحديد المسؤوليات، لا سيما أن الرأي العام الإسرائيلي، في مواجهة الصدمة، يشعر بالغضب والإحباط من هذا التقاعس في مواجهة عملية بهذا الحجم. ولا مناص من سقوط رؤوس في المستقبل لا ندري درجة مسؤوليتها. لكن في انتظار ذلك يمكن أن نخرج باستنتاجين: الأول مضمنه أن ما وقع يبين بالملموس أن الاستخبارات التكنولوجية ليست دائما فعالة، ولا يمكن أن تكون بديلا للاستخبارات البشرية المعتمدة على القرب. وهو أمر يطرح ضرورة التوازن الصعب بين هذين البعدين في العمل الاستخباراتي. وأما الثاني فيكمن في عدم التوقعية التي باتت تسم العلاقات الدولية، حيث يتبين من جديد أنه مهما كانت الاحتياطات، فإن الخطر الصفر ليس ممكنا. ترى بعض التحليلات أن إخفاق الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية في رصد تحركات مقاتلي كتائب القسام راجع إلى تركيزها على الإشكالات الأمنية التي تعرفها الضفة الغربية في ظل إجراءات بناء مستوطنات جديدة، وردود الفعل الناجمة عنها، وكذا الوضع السياسي الذي تعيشه الضفة في ظل تساؤلات حول الوضع الصحي للرئيس أبي مازن، في الوقت الذي كان يعتقد أن قطاع غزة يعرف هدوءا نسبيا.

يكمن الاستنتاج الثالث في انهيار، من جديد، مقولة التفوق المطلق لإسرائيل. لقد أكدت هذه العملية الموسومة بـ”طوفان الأقصى” أن أمن إسرائيل، في ظل الاحتلال المرفوض من طرف القانون الدولي، لا يكمن في سياسة العصا، والتمعن في نهج سياسة قائمة على توسيع المستوطنات، والتشدد في الحصار بشكل لم يترك أمام سكان غزة، وخاصة الشباب منهم، إلا تثبيت اليأس، وبالتالي بشكل معاكس تدعيم سلطة حماس التي تسيطر على القطاع منذ انتخابات 2006. فبالرغم من الأمل الذي فتحته اتفاقيات أوسلو سنة 1993، فإن ذلك سرعان ما تحول إلى سراب بعد وصول اليمين إلى السلطة بزعامة نتنياهو سنة 1996، الذي اعتبر أن تلك الاتفاقيات ليست الحل، بل هي المشكلة. ومن ثم سعى إلى تدمير ورفض كل عملية سلمية لتحقيق الحل السليم القائم على إنشاء دولتين تتعايشان جنبا إلى جنب. ومن ثم ساهمت هذه السياسة اليمينية المتطرفة في إضعاف جناح الداعين إلى التسوية على أساس تنازلات متبادلة، وفي نفس السياق ترك القطاع تحت رحمة حركة حماس التي تدور في فلك إيران.

لذلك يمكن القول بأن هذه الحركة حققت انتصارا سيكولوجيا واضحا. مما لا شك فيه أنها تدرك أنه لا يمكنها تحقيق انتصار عسكري في ظل التفوق الإسرائيلي، والمساندة التي تلقاها، كما تم التعبير عن ذلك خاصة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية والحكومات الغربية. فهذه العمليات ستدخل المجتمع الإسرائيلي من جديد في حالة الشك والارتياب وعدم الطمأنينة حول مستقبله. وهو أمر سيطرح نقاشات وجدلا حول المسؤولية وحجمها، خاصة بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، والأجهزة السياسية، خاصة منها الحكومية.

أما الاستنتاج الرابع فيكمن في كون هذه العملية أعادت موقعة القضية الفلسطينية كجوهر النزاع في الشرق الأوسط. في نفس السياق، ومهما كانت حدة انتقام إسرائيل، فإن حركة حماس نجحت في إعادة مركزة القضية الفلسطينية في أجندة الشرق الأوسط. لقد اعتقد الغرب المسكون بالحرب في أوكرانيا أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تجمد، وأنه لم يعد يشكل رهانا دوليا، وهو تصور أظهرت الأحداث خطأه الفادح. فالنزاعات تظل كالبركان لا نعرف متى تطلق حممها، ومتى تثور من جديد.

ثانيا: ماذا بعد هذه العملية ؟

تطرح هذه العملية، التي كما أبرزنا ما زالت في بدايتها، تساؤلات لا أحد يملك بشكل يقيني الإجابة عنها. إذ وحده الزمن كفيل بإنارتها.

أولا: ما ذا تريد حماس من هذه العملية التي زلزلت إسرائيل، بقطع النظر عن كونها رد فعل على سياسة الاستيطان وتثبيت الاحتقان وممارسة العنف ضد الفلسطينيين بشكل مستدام؟ هناك عدة عوامل يمكن أن تساعدنا على فهم بواعث هذه العملية، فمن جهة أدركت حركة حماس أن رصيدها السياسي بدأ يتآكل في ظل الحصار والأزمة الاقتصادية وانسداد الأفق، ومن ثم لا مناص من رد فعل قوي يمكنها من استرجاع زمام المبادرة، رغم الثمن الباهظ الذي سيؤديه الفلسطينيون جراء العمليات الانتقامية التي بدأتها قوات الاحتلال الإسرائيلية. من جهة ثانية، فإن هذا الفعل سيساعدها على أن تقدم نفسها كمعبر عن هواجس الشعب الفلسطيني في غياب منظمة التحرير الفلسطينية، التي باتت تعاني من كثير من الاختلالات أفقدتها إمكانية المبادرة والتحرك.

ما هو الدور الإيراني في هذه العملية؟ من المعروف أن إيران تستغل القضية الفلسطينية دائما للبقاء في قلب المعادلة في الشرق الأوسط. وهناك عدة مؤشرات على تمويلها ودعمها للحركات الإسلامية في غزة، وأساسا حماس والجهاد الإسلامي، فقد عبرت عن مساندتها لحق الشعب الفلسطيني في الدفاع الشرعي في مواجهة العدوان الإسرائيلي الممتد. ولا شك في أنها تتوجس من استمرار الاختراق الإسرائيلي، خاصة لدول الخليج، في ظل ما عرف بـ”اتفاقيات أبراهام”. وليس مستبعدا أن تكون هذه العملية بمثابة مسمار في التقارب الإسرائيلي السعودي الذي كثر الحديث عنه في الأيام الماضية. لكن لحد الساعة ليست هناك دلائل على التورط الإيراني بشكل مباشر في هذه العملية.

هل ستؤثر هذه العملية على مسلسل التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية؟ على هذا المستوى، يمكن أن نسجل أنه إذا كان الغرب قد عبر عن مساندته اللامشروطة لإسرائيل واصفا تلك العملية بالإرهابية، فإن أغلب الدول العربية فضلت الدعوة إلى وقف التصعيد، وضبط النفس، والبحث عن صيغة للرجوع إلى مائدة التفاوض. وهذا يعني أن هذه العملية لن تؤثر بشكل مباشر على تلك الاتفاقيات التي تعكس في العمق نوعا من الواقعية التي تدعو إلى التعامل بمنظور جديد يأخذ بعين الاعتبار التحولات التي يعرفها المحيط الإقليمي والدولي. فعلى سبيل المثال، فإن المغرب مرارا، ومن خلال المواقف الملكية، ما فتئ يؤكد على مركزية القضية الفلسطينية، وعلى ضرورة إيجاد حل لها على أساس دولتين. فبالنسبة للمغرب، فإن العلاقة مع إسرائيل لا يمكن أن تكون على حساب ضمان الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. أكثر من ذلك، فإن مسؤولية الملك محمد السادس بوصفه رئيس لجنة القدس، واعتدال السياسة الخارجية المغربية، وتفضيلها للحوار ونبذ العنف والكراهية، يمنح المغرب فرصا واضحة للعمل من أجل وقف التصعيد، والبحث عن صيغ أكثر ملاءمة لتجاوز الوضع المعقد الذي تعيشه المنطقة. ولكن بالمقابل، فإن أحداث العنف الجارية حاليا لا يمكن إلا أن تلقي بظلالها على تدعيم مسلسل التطبيع بفعل تعقد شروط التواصل بين الطرفين، وقد يتسبب ذلك في تأجيل بعض اللقاءات التي كانت مبرمجة. في نفس السياق ستزيد من إضعاف الجانب الوجداني للعلاقات الناشئة بين بعض الدول العربية وإسرائيل. فاليمين الإسرائيلي الحاكم لم يستثمر تلك الاتفاقيات من أجل تحسين صورته لدى الرأي العام العربي، الذي يشعر بالسخط إزاء ممارسات اليمين الإسرائيلي في مواجهة الشعب الفلسطيني. وبالتالي، بالرغم من تراجع هذه القضية في أجندة الاهتمامات العربية لا يبدو بالمقابل أن رصيد إسرائيل قد تحسن في الوجدان العربي.

أخيرا هناك تساؤل مقلق حول رد الفعل الإسرائيلي، وتداعياته المحتملة في ظل التصريحات النارية التي أطلقها نتنياهو حول ضرورة الانتقام لاجتثاث حماس وإعادة هيبة إسرائيل المشروخة. ما هي حدود هذا الانتقام؟ وكيف يمكن القضاء على مقاتلي حركة حماس دون أن يفضي ذلك إلى مذابح وسط المدنيين العزل الذين يقطنون بغزة ؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك في الوقت الذي تتوفر حركة حماس على عدد من الرهائن الإسرائيليين؟ وثالثا، ماذا سيكون رد فعل الأطراف الفلسطينية الأخرى، سواء في الضفة أو داخل إسرائيل نفسها، علاوة على حزب الله في لبنان المدعوم من طرف إيران؟ ألن تؤدي عملية انتقامية واسعة إلى فتح جبهات جديدة ضد إسرائيل؟ في سياق كل ذلك، ما هو مصير المستقبل السياسي للوزير الأول نتنياهو في ظل هذا الزلزال السياسي الذي تعيشه إسرائيل؟..

أكثر من أي وقت مضى يبدو أن السياسات الانفعالية لا يمكن إلا أن تؤجج الأوضاع، وتكلف المدنيين ثمنا غاليا، وتزيد من الأحقاد، وتعمّق مأزق الوصول إلى تسوية تضع حدا للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، في الوقت الذي يقر العالم بأنه لا مناص من إنشاء دولة فلسطينية متوفرة على كافة شروط الحياة بجانب إسرائيل. فهل سينتصر العقل والحكمة، أم أن منطق الانتقام الأعمى سيدفع بالمنطقة نحو مزيد من المآسي وإهدار فرص التسوية؟ ذلك ما ستجيب عنه التطورات المقبلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى