أخبار العالم

رواية “وداعا كولورادو” تعكس أحلام الشباب



يرصد الروائي والشاعر والباحث المغربي الدكتور أنس الفيلالي في روايته الجديدة “وداعا كولورادو” انعكاسات الواقع المأزوم على تحولات المثقف العربي، في إطار مكاني وزماني جاء بؤرة تتشظى منها مرايا المثقف في واقع يتأرجح بين التهميش والفقر ومقاومة الإحباط. وتكشف الرواية أمراضا ثقافية عبر صور وتمظهرات متباينة على المستويين النظري والعملي، مثلما توقف عندها كتّاب ومفكرون من قبيل أنطونيو غرامشي وجون بول سارتر وميشيل فوكو وإدوارد سعيد.

في الرواية الصادرة حديثا عن منشورات دائرة الثقافة في الشارقة، والحائزة المركز الثالث بجائزة الشارقة للإبداع العربي، يطرح بطل العمل، وهو الكاتب الشاب الفقير سعيد بنقدور، أسئلة عديدة عن الحاصلين على جوائز كبرى، وعن القراء والكتّاب المغمورين، وعن المعاناة المتمددة على خريطة الكتابة.

سعيد، الذي لطالما حلم بأن يصير نجما روائيا في الأدب، كان منشغلا بموهبته في الكتابة التي كانت دائما مصدر فخر لأسرته وجيرانه؛ لكنه، وفي خضم ذلك الانشغال المتواصل، لم يدرك قط أن موهبته ستتحول فجأة إلى منبع لآلامه وحزنه وسببا رئيسا في هلاكه أيضا. ينتسب سعيد إلى مدينة القصر الكبير، المدينة التي يرسم الراوي ملامحها في مطلع الرواية ويصورها بأنها “جنة مفقودة وجحيم سائد” في الآن ذاته. إنها الفضاء الذي تتبلور فيه أهم شخصيات الرواية، خصوصا حي دار الدخان الصفيحي الموجود بهامش المدينة، وهو الجو العام الذي يسيطر على حياة بطل الرواية.

يقول الناقد عبد الرزاق اسطيطو عن الرواية: “كما أن التهميش، بكل مظاهره من فقر وبطالة وغيرهما، الذي طال المدينة على مدار التاريخ، والذي معه تنعدم فرص الحياة السعيدة سوف يطال كذلك شخصيات الرواية؛ وعلى رأسهم الشخصية المحورية سعيد بنقدور، وهو التهميش الذي سوف يدفعه إلى ترك الجامعة والاشتغال في الفرن”.

وعلى الرغم من شغف سعيد بالمطالعة وحبه العميق للكتابة والأدب، فإن الظروف المادية المزرية ستدفعه إلى ترك الجامعة والاشتغال بفرن تقليدي. ومع مرور الزمن وهو على حالته تلك يتعرف عبر الإنترنيت على كاتبة من أصل مغربي، تعمل أستاذة للأدب المقارن في إحدى الجامعات الأمريكية تدعى روزاليندا، التي أبدت إعجابها بقصصه القصيرة التي ينشرها من وقت إلى آخر في منابر مغربية، فشرعت بعد موافقته تترجمها إلى الإنجليزية.

ثم أخذت أحلام سعيد بعد ذلك، تتراوح بين حبه لها ومحاولته الهجرة بوساطتها إلى الولايات المتحدة، وبين تحقيق طموحه بمساعدتها له في أن يصبح كاتبا مشهورا ومنتشرا في مختلف بلدان العالم الغربي الناطقة بالإنجليزية؛ لكنه سرعان ما يكتشف سر زواجها برجل لم تكن ترغب فيه، وطريقة زواجها التقليدية، ثم حياتها مع زوجها الذي كان يرغمها على التشبث بالتقاليد والعادات المتعارف عليها في بلده المحافظ رغم استقرارهما، لتدخل الرواية في جملة من الأحداث المثيرة التي تنتهي بلقائهما في الدار البيضاء، حيث صدما بسطحية العلاقة الافتراضية التي كانت تجمعهما وزيفها، وبعلاقتهما الواقعية المختلفة تماما عن علاقتهما عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي نهاية الرواية، يختفي سعيد عن الأنظار، ليعود مجددا في خاتمة مأساوية يلتقي فيها بصديقه القديم شكري الناصري، الذي سرق منه روايته التي كان يحلم بنشرها ويتوقع لها أرفع الجوائز ليغير وضعه الاجتماعي، حيث نشرها شكري باسمه بعد أن صار عميد كلية بإحدى الجامعات.

على امتداد صفحات الرواية، يسلط الكاتب أنس الفيلالي الضوء على العديد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية؛ أبرزها: الفقر والتهميش اللذان عانت منهما بعض المدن الصغيرة في المغرب. كما يصور مختلف مظاهر وطموحات وأحلام المثقف المغربي وتحولاتها السلبية والإيجابية. ولأهمية ذلك تتكرر كلمة “المثقف” مفردا وجمعا 45 مرة في العمل؛ فمن جهة، تبرز صور المثقف من خلال مجموعة من التعريفات النظرية ومختلفة الأبعاد والتصورات على لسان شخصيات العمل وأبطاله الرئيسيين أو الثانويين الذين أوردوا تعريفات لدور المثقف لدى علماء الاجتماع، أو كما يرونها بشكل شخصي. يقول سعيد: “المثقف لا نميزه بين عموم الناس؛ لا بإنتاجاته، ولا بصورة المثقف التي يصنعها وينعته بها الآخرون، ولا حتى بالذي يحمل كما من المعلومات التي حفظها عن ظهر قل، ولا يعرف معناها أو مدلولها أو ماهيتها. وإنما المثقف هو ما يحمل هما إنسانيا وحضاريا، سواء كان مكتوبا أو شفهيا”. أما من جهة أخرى، فإن صور المثقف تبرز في الرواية على المستوى الواقعي من خلال ما تعيشه شخصيات الرواية وأبطالها من مواقف وسلوكيات وأحداث في مجتمع متغير بتغير شخوصه وعوالمه.

عمل المؤلف على إثارة فضول القارئ تجاه بعض فئات المجتمع وهمومها وقضاياها، بداية من معاناة العمال المياومين، ومشكلة القراءة الراجعة إلى انعدام وجود مكتبات وقاعات للقراءة في المدينة، وضعف القدرة الشرائية للكتب، وصولا إلى القدرة على التغيير؛ إذ يستعرض المؤلف في روايته قدرة الفرد على تغيير واقعه، وكيف يمكنه تحقيق أحلامه وطموحه، من خلال التركيز على أهدافه والمثابرة والاجتهاد إلى أن تُفتح في وجهه أبوابٌ جديدة. كما تتطرق الرواية، بعمق وبأسلوب يجمع بين السلاسة السردية والأناقة الشعرية في الوصف والتشبيه، لموضوعات شائكة؛ مثل الفساد الذي يطال بعض الأوساط الثقافية، والازدواجية التي يعاني منها مثقفون وكتّاب في عموم الوطن العربي، فيقول على لسان إحدى شخصيات الرواية: “من الأفضل أن نظل على ارتباط وثيق بكتابات الكاتب، لأن شخصيته في الأغلب مناقضة لما يكتبه وينشده في مواقفه”، داعيا بذلك إلى التركيز على النص لا على الكاتب وشخصه في خطاب أشبه بالخطاب البارتي (نسبة إلى رولان بارت) المناشد لموت المؤلف، على اعتبار أن الكتابة حياد يجب تحريره من جميع الهويات، بدءا بهوية مؤلفه. كما تذكرنا هذه المقولة بقولة أخرى للكاتب المجري آرثر كوستلر، مفادها: “هل أتيت لرؤية الكاتب؟ كن حذرا، إنه أمر مخيب للآمال”. وهو مجاز يقصد به صاحبه بأن الصورة المثالية التي نرسمها لشخص الكاتب من خلال مؤلفاته قد تكون مغلوطة وقد تتعرض للانكسار لحظة اللقاء به أو التعرف عليه عن قرب؛ وذلك ما حدث مع بطل “وداعا كولورادو”، سعيد، والكاتب عبد القادر قندقجي الذي كان يحترمه ويقدره إلى أن اصطدم بجشعه وزيفه في لقاء ثقافي نظم بالمدينة، وكان قد حضره بغية الحصول على نسخة موقعة من كاتبه المفضل الذي كان هدفه بيع الكتب، غير مكترث بوجود سعيد ولا بأسئلته. وهذه إحدى صور الكاتب؛ لكن من دون تعميم، إذ إن الرواية تظهر على الجانب الآخر شخصية كاتب آخر يدعى الشيخ الذي التقى به سعيد، ولمس فيه عزة الكتاب والمثقفين الحقيقيين وترفعهم، حيث قال في وصفه: “نظر إلى الشيخ فرآه هادئا وحده في هذه القاعة التي أصبحت مثل إسطبل من الهرج ينخرط فيه كل هؤلاء الفنانين والكتّاب ورجال المال والسلطة الشرهين”؛ فكان الشيخ الذي نكتشف فيما بعد أنه ليس سوى الكاتب المغربي الشهير محمد شكري، الذي يمثل لسعيد قدوة ونموذجا يتمنى أن يصير كاتبا مثله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى