الهجرة: لماذا تركت فرنسا من أجل العودة إلى وطني الجزائر؟
في سلسلة رسائلنا من الصحفيين الأفارقة، يفكر الصحفي ماهر مزاحي، في الأسباب التي دفعته لاتخاذه قرار مغادرة فرنسا والعودة إلى الجزائر، حيث تعود أصول عائلته.
ويوجد في كل عائلة مهاجرة ذلك الشخص الذي ينتقد بشدة أي شيء يتعلق ببلده الأصلي.
ربما أثناء مناقشة عائلية يتطرق الحديث إلى الفاكهة التي يشتهر بها وطنه، لكنهم سيتحدثون عن أن سعرها قد تضاعف أكثر من ثلاثة أضعاف في العام الماضي.
ستصل أخبار أيضا عن تخرج أحد أفراد العائلة ابنة أو ابن أخ من المدرسة الثانوية، لكن هناك من سيتحدث بحسرة عن أن كل ذلك هباء لأن جودة التعليم سيئة.
أثناء نشأتي، كان والدي فرد في عائلة مثل هذه، وكنت وقتها أعيش في كندا، لذا كانت رحلاتي إلى الجزائر مليئة بالملاحظات السيئة (عن الوضع في الجزائر) وجنون العظمة الشديد.
وظننت أن تشاؤم والدي نابع من شعوره بالذنب للتخلي عن كل شيء، وبدا لي أن انتقاداته الوضع في الجزائر وسيلة لتبرير رحيله، خاصة لنفسه.
ونتيجة لذلك، لم أتمكن حقا من تكوين أحكامي الخاصة حول العيش في الجزائر إلا حين بدأت الذهاب إلى هناك بمفردي عندما كنت شابا بالغا.
في ذلك الوقت، وقعت في حب كرة القدم الأفريقية بجنون وتوصلت إلى استنتاج مفاده أن الطريقة الوحيدة التي يمكنني من خلالها ممارسة مهنة الصحافة الكروية بشكل صحيح هي “العودة” إلى الجزائر.
لقد كتب الكثير عن “الهجرة العكسية”، وكيف “يعود” أطفال الجيل الأول من المهاجرين إلى بلدهم الأصلي لإعادة اكتشاف الحكمة المفقودة هناك، والتقارب مع الأسرة الموجودة ومعالجة أزمات الهوية.
غالبا ما يروى أطفال هذا الجيل قصصا إيجابية، لكن الأجيال الأكبر سنا تكون أكثر تشاؤما وتدلي بملاحظات خارج هذا السياق، يردوا مثلا على القصص الإيجابية بجملة “انتظروا حتى يضطروا للذهاب إلى أي مصلحة حكومية لإنجاز بعض الأوراق الرسمية”.
ما زلت أتذكر بوضوح محادثة العشاء التي دارت في غرفة معيشة عائلتنا في كندا ذات ليلة، حيث أصررت على أن الوقت قد حان للانتقال إلى الجزائر العاصمة.
رد أخي الأكبر ساخرا والابتسامة على شفتيه: “دعه عامين فقط”.
فرد والدي قائلا: “سنتان؟ بل لتكن شهرين”.
الرهانات على المدة التي يمكنني أن أتحمل فيها العيش في الجزائر أصبحت لعبة، ستشارك فيها حتى العائلة الكبيرة في الجزائر خلال الأشهر التالية.
والآن انتهى بي الأمر في الجزائر لمدة ست سنوات.
دبت في مشاعر التشويق والتطلع لما هو مقبل خلال أول سنتين لي في الجزائر.
كان هناك تدفق للصحفيين والمهنيين الشباب ورجال الأعمال، الذين جاءوا من الشتات في نفس توقيت عودتي، في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
كان اقتصاد البلاد مزدهرا لمدة خمس سنوات، وبدا أن الاحتمالات لا حصر لها.
وكانت مدارس اللغة الإنجليزية تنتشر في جميع أنحاء العاصمة مثل الفطر البري.
كانت الجزائر منتعشة بعد مسيرة ملهمة في كأس العالم لكرة القدم 2014، وضمن تألق لاعبين مثل ياسين الإبراهيمي ورياض محرز، تسليط الضوء على كرة القدم لدينا.
بالنسبة للصحفي الذي قام بتدريس اللغة الإنجليزية كلغة ثانية، كان ذلك مناسبا تماما.
لكن أي شخص محظوظ عندما يصبح بالغا، يعرف أننا جميعا في النهاية نصبح مثل آبائنا.
وعلى الرغم من أنني لا أضجر بالشكوى من مشاكل الجزائر بشكل منتظم، إلا أنني انتهى بي الأمر إلى بعض الأعذار لمغادرة البلاد منذ عام ونصف.
بالنسبة لي، كانت هذه الأعذار مزيجا من قيود السفر الخانقة بسبب جائحة كوفيد-19، التي أغلقت الحدود الجزائرية لمدة عامين تقريبا، وكذلك بسبب تراجع الحريات المدنية مما جعل ممارسة الصحافة أكثر صعوبة.
وصلت أيضا إلى مرحلة أريد فيها “تجربة شيء مختلف”، مما دفعني إلى الانتقال إلى مرسيليا في جنوب فرنسا.
ورغم هندستها المعمارية المذهلة ومعجناتها الطرية والطقس المشمس، والكثير من الملذات الجميلة، لكنني أدركت بسرعة كبيرة جدا أنها ليست المكان المناسب لي.
أعتقد أن السبب الرئيسي الذي جعلني أشعر بأنني لست في المكان المناسب، أنني لا أقوم بتغطية أخبار كرة القدم الأفريقية على أرض الواقع.
لا شيء في هذا العالم يعوضك الشعور بأنك وجدت رسالتك الحقيقية وإدراك أنك تساهم، ولو بطريقة بسيطة، في المجال الذي اخترته.
لكن بالإضافة إلى المتعة التي تمنحني إياها الصحافة والرواية، هناك أشياء أخرى أكثر بساطة تجذبني إليها.
منها طلب سيارة أجرة (لا تزال تكلفتها قليلة كوسيلة نقل يومية في الجزائر)، كما أنه يمكنك تكوين صداقات جديدة أثناء تنقلاتك، وتناول بعض من السردين الصغير الذي يتم اصطياده قبالة الساحل.
لقد أدركت أنه في رحلة الحياة، إذا وجدت السعادة في تفاهات الحياة اليومية، فعادة ما يكون هذا مكانا جيدا للتوقف وأن تحط رحالك.
والآن أنا أستعد لـ “الهجرة العكسية” للمرة الثانية، وكان ذلك وقتا للتأمل.
لقد قمت بمقارنة الإثارة والعاطفة التي شعرت بها في خطوتي الأولى (نحو الجزائر) في عام 2016، مع ما أشعر به اليوم.
لم أعد متحمسا كما كنت في ذلك الوقت، فهناك الكثير مما يجب اكتشافه وقد تلاشت الحداثة تماما.
لقد سئمت بالفعل من البيروقراطية القاسية ونظام العدالة غير المستقر والصعوبات في العثور على رعاية صحية متخصصة إذا لزم الأمر.
ومع ذلك، فإن قائمة السلبيات تتلاشى عندما أفكر في أنني سأعود إلى المنزل لأقوم بأكثر شيء أحبه في المكان الذي أحبه أكثر.
وهذا شعور أتمنى أن يشعر به الجميع مرة واحدة على الأقل في حياتهم.