أخبار العالم

هكذا يتغنى الشعر الأمازيغي المغربي بـ”الكبد” موطن الشجاعة والحب



تحتفي مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة بالإيقاعات الأمازيغية الرائجة في المغرب العميق. وبذلك صارت مقاطع الشعر الأمازيغي المغناة تحت الأضواء كما هو الحال في الترجمات والتعاليق التي ينجزها الأستاذ أحمد بوزيد، وهو باحث في سلك الدكتوراه في الدراسات الثقافية والمتخيل في كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء.

يتحدث أحمد بوزيد عن علاقة الفن بالعين في الثقافة الأمازيغية قائلا:

ينطوي دال “تازوري” كتسمية للفن عموما في اللغة الأمازيغية على الجذر اللغوي للإبصار “إزرا” الذي يعني فعل الرؤية. ويرد “إزري” للدلالة على حاسة الإبصار، تبعا لذلك ندرك أن “تازوري” أو الفن في الأمازيغية من حيث الدلالة اللغوية هو موضوع الرؤية الذي يلتقطه الإنسان عبر الرؤية الحسية والبصرية. ذلك أن جل العناصر والوقائع التي تنتسب للفن في الثقافة الأمازيغية هي موضوعات للرؤية.

تقول أغنية أمازيغية:

يا حافظ السر

هلم إلي لأحدثك

عن جرحي

وأريك إياه

إن الثقافة الأمازيغية شفوية أساسا، لذلك تلعب فيها الأذن والعين دورا كبيرا.

لقد ظل الشعر في الثقافة الأمازيغية- بوصفه اشتغالا على مادة اللغة وعلى الصوت- مقترنا في فضاءات التلقي بعلامات مرئية من قبل جسد الشاعر والنار اللاهبة في المرقص وحضور هذا الجسد وتشكيله عبر مصفوفة من المقتضيات المتعلقة باللباس في الفضاء الدائري في الرقصات مثل أحيدوس وأحواش ورقصات فرقة قلعة مكونة.

عن سؤال: ما علاقة الفن بالعين في الفنون الأمازيغية؟

يجيب الأستاذ أحمد بوزيد أن ثمة علامات لغوية في اللغة الأمازيغية تعضد هذه الحفريات في متخيل “تازوري”، منها التسميات التي سمت بها اللغة بعض الفنون، والتي تفيد هذا المعنى، المعنى المتمثل في دلالة “تازوري” على موضوع للرؤية والظهور والضوء والظلمة… للإشارة، فـ”تازيري” تعني ضوء القمر وتعني كذلك القمر المكتمل.

يلاحظ الباحث أن هنالك جناسا.

يقول: هناك جناس بين التسميات، مثلا يسمي الأمازيغ الطوارق أو إموهاغ الموسيقى بأزوان، وغير خفي أن جذر “إ ز ون”، الذي يعد الجذر اللغوي للكلمة، يفيد معنى الظهور، ومنه “يزون وايور”، أي اكتمل ظهوره وبروزه مما يمنح الإنسان القدرة على الرؤية في الليل لأن القمر عندما يكتمل ظهوره يشع ويضيء حد رؤية الظلال الليلية.

واضح إذن أن لحضور العين أيضا ملمحا خصيبا في الأشعار الشفهية كأشعار يغلب عليها وصف الطبيعة والمشاعر.

تقول الأغنية:

دع عنكم لومي

يا أحبابي

وحده الحب والشوق

والأشعار

قادوا خطاي بعيدا عن الديا.

عن سؤال: ما موقع الحب في الشعر الأمازيغي؟

أحمد بوزيد: يتطلب تحديد موقع الحب ومكانته في خرائط الذاكرة الشعرية الأمازيغية إشارة إلى معالم هي بمثابة مفاتيح منسية لاستكشاف مجهول الحب ومتخيله، بما يتيح بناء موضوع الحب ومتخيل الأمازيغيين والأمازيغيات بخصوصه، أقصد موطنه كما تمثلته الثقافة الأمازيغية، والمتمثل في الكبد أو تاسا. ليست الكبد- تاسا في المتخيل الأمازيغي مجرد عضو في الجسد، إنها في العالم المادي عنصر عضوي يضطلع بوظائف ما، لكنها في الحياة الرمزية فضاء ممتد وموضوع خصيب، إنها موطن معقولات كالحب والشجاعة.

تمتد تاسا شبيهة بمغارة تخترق طين الجسد يمكن أن تطل عليها. يقول الرايس عبد النبي أتنان: “أتاسانك أن تاكات يان تريت إراك… إقور أوزرو ماش أداك ملغ أسافارنسي”. ويقول بوبكر أنشاد: “أترزامت أتاسا غ الفصول منعانين… إيويغ أضبيب أريكينس ورييت إيقين”.

هكذا يعبر الشاعر عن مشاعره.

تقول أغنية أطلسي التي يؤديها رويشة إن العين هي طريق الألم إلى الكبد. فالعين ترى والكبد يقع في الحب.

تاسا- الكبد. من هنا جاء تعبير الكبيدة.

في الشرق يقولون إن موطن الحب هو العقل ومن فقده بسبب ليلـى صار مجنونا. في المغرب موطن الحب هو الكبد.

يضيف الباحث:

تملك تاسا قدرة الإمساك بمن تحب، ففي أغنية مشتركة للرايس أنشاد والرايس عبد النبي أتنان نلفي “لعاقل فتان تاسانو تغويي كيسن”.

إن تاسا كما تشكلت في الحياة الرمزية الأمازيغية ومتخيلها تظل متصلة برموز السكينة والاحتواء والعمق لتخترق الجسد عميقا. للشفاء من الحب يجب شفاء تاسا- الكبيدة.

تقول أغنية أمازيغية:

عجل أيها الطبيب

بشفائي

إن كنت تملك حيلة

والْأمِ الجرح

قبل أن ينط مني

قلبي النافر.

واضح أن الشاعر يطلب العلاج سريعا.

عن سؤال: ما هي سمات الشعر الامازيغي على صعيد رصد التجربة الإنسانية والإبداع والإنشاد؟

يجيب أحمد بوزيد: يرصد الشاعر الأمازيغي تجربته وتجربة مجتمعه بعمق. أما عن خصوصية الشعر الأمازيغي الشفهي كلون من ألوان الفن فهو من حيث تجاربه متعدد، غير أن خاصيته المائزة تتمثل في ارتباطه بالموسيقي، فما بين الشعر والموسيقى علاقة صداقة طويلة ووشائج وجذور ضاربة في تاريخ التعبيرات الرمزية الإنسانية.

يتبدى هذا الكشف في تاماوايت الأطلسية ورقصات أحيدوس، التي أودعت فيها الذاكرة جرحا أهال على ما يمتد من الجسد الأطلسي ملمحا فجائعيا، ترجمته الٱهات والبكاء الثاوي فيها والجلي في الٱن ذاته على نحو ما ورد في مقطع خصيب من رواية “سدوم” لعبد الحميد شوقي على لسان شيخ يرنو إلى أحيدوس من كائناته الروائية لما قال: “حين يرقصون ويغنون لا أحد غيرنا يدرك أنهم يبكون”، وهو أيضا ما يطالع من يرنو إلى رقصة “إسمكان”، التي تكاد تكون سيرة لانفلات الجسد الزنجي من سلطة البياض ومركزيته، حيث تبدأ الرقصة الموسيقية بصوت خافت لقرقبات الحديد وميلان وجوه الراقصين بما يشي بالتعب واكتشاف المكان ومحاولة الصعود التي تتنتهي بالتهاوي كأن ثمة جدرانا لا مرئية منيعة، وكأن الأقدام قيدت حركتها العقال، ثم يعلو صوت الحديد حتى تحلق الأجساد، وتنتهي الرقصة فلا يصل متلقيها إلا صوت الأقدام يعمق ثقلها إيقاع الطبل المعادل لخفقان القلب المبتهج بالحرية كأنها عادت إلى براريها الأليفة لتوشك السيرة المكتوبة بالجسد على نهايتها، نهاية فظاعة بياض جارح لجسد الإنسانية .

يتعمق الباحث في عرضه قائلا:

إن بناء العلاقة بين الموسيقى والشعر في الثقافة الأمازيغية لا يمكن أن يستقيم دون استحضار جملة من العلامات، فلتاريخ تلك العلاقة بالذات جذور في المتخيل.

إن كل كتابة لتاريخ الموسيقى هي أيضا كتابة لتاريخ هذا الشعر، كما أن التسمية التي خصت بها هاته الثقافة الشعر هي ذاتها التسمية التي ارتضتها للموسيقى، تسمية “أمارك” التي تؤمن لهما نسبا رمزيا يصلهما بالوجداني، ويرتب ماضيهما بجعلهما امتدادا لحقيقة الفقدان المولدة لهما.

إن الشعر الأمازيغي مرتبط بالأرض على نحو حميمي، يعكس صلات وجدانية عميقة، بيانه الارتباط بشعرية الأشياء التي تعثر عليها حواس الشعراء والشاعرات في محيطهم، إنه عزاء الروح. جل الأشعار الأمازيغية تنبع من الفقدان، وتعلي من حضور الحكي وحضور الترحال، إنها رحلة بحث عن طيف المحبوب، عن طمأنينة الأعماق. رديف الألم والتمزقات. في كل سجل شعري أمازيغي ثمة حنين ينبع من انفصال عن حضن المحبوب، عن صدر الأم، عن ظلال القرى العزلاء والمداشر، وعن المنحدرات الأولى للذات. ثمة العطش الدائم إلى عالم انتزعت منه الذات انتزاعا، هو عطش الأوراق التي تذروها ريح الخريف بعيدا عن أشجارها.

عن سؤال: كيف يمكن صيانة هذا التراث الفني الشعري والموسيقي ونقله إلى الأجيال الصاعدة؟ يجيب الأستاذ أحمد يوزيد:

في البدء، لدي ارتياب من توصيف الموسيقى والشعر الأمازيغي الشفهي بالتراث لأن التراث تشرب دلالات في ذاكرتنا الاستقبالية وصار لدى كثر محيلا على شيء انتهى، على ماض متخيل.

يعترض المتحدث عن هذه المقاربة ويفسر:

لا أعتقد بهذا لأن ممارسات الفنون الموسيقية والشعرية الأمازيغية لا تزال في صميم الحاضر.

إن الناس مثلا في أسايس يحجون إلى المراقص بكثرة وينصتون إلى الشعراء والشاعرات حتى الفجر، في تمنارت جنوب المغرب في أشتوكن وجبال آيت باها في طاطا وإسافن… أحدس أن الأمر يقع أيضا في الأطلس المتوسط، قلب الثقافة الأمازيغية ومقموعها. هكذا تمسح يد الشاعر الشفهي دموع الخطاب المأثمي. لو أطلنا النظر إلى المغرب المتعدد، وعشناه فهو يعيش فينا، يعيش في وجداننا بكامل البهاء،

أما عن استدامة هذه الممارسات وتمكين الأجيال منها، فهو- في تقديري- له صلة بالحقوق الثقافية واللغوية واستدامة إمكان التمتع بها من قبل أجيال ستأتي إلى هذا العالم.

ختاما يحذر الأستاذ أحمد بوزيد:

إن ما يهدد هذه الفنون والتمثلات هي هجرة هذا الإنسان من فضاءات المعيش المألوفة نحو فضاءات جديدة، أي نحو المدن الكبرى.

إن ما يهدد اللغات والفنون في المغرب هو هذه الهجرة المستمرة إلى فضاءات عولمية تذويبية للكيانات الرمزية للإنسان في عولمة تقنو- علمية، وهذا ما يستدعي توثيقا بصريا عاجلا لهذه الفنون قبل أن تفقد أصالتها ويحل الدف البلاستيكي والكهربائي محل الدف المغلف بجلد الماعز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى