السخرية في العالم العربي: كيف ينجو فنانو الكوميديا من حقول الألغام؟
- Author, جوي سليم
- Role, بي بي سي نيوز عربي – بيروت
لم تفلت الكوميديا في العالم العربي يوماً من قبضة الرقابة الحكومية أو المجتمعية، خصوصاً عند مقاربتها مثلث المحرمات الشهير: الدين والسياسة والجنس، الصامد إلى حدّ كبير في وجه النقد والسخرية.
يمكن القول إن فنون السخرية والنكتة، في سياقها العربي، أشبه بالسير في حقل ألغام، وقد انفجر أحدها أخيراً في وجه فنان الستاند أب كوميدي اللبناني نور حجار بعد توقيفه لدى المباحث الجنائية في بيروت، على خلفية مقطع فيديو من عرض قديم، اعتُبر أنه يحتوي مسّاً بالدين الإسلامي.
وأثارت النكتة التي اجتُزئت من العرض الذي يعود إلى عام 2018 غضب الكثيرين وكذلك دار الفتوى اللبنانية، وشُنّت حملة على حجار تضمنت شتائم وتهديدات، ما دفع الفنان إلى إصدار بيان اعتذر فيه “من أي شخص تضرر بسبب الفيديو”، مؤكداً أنه لا يمكنه “بأي شكل الإقدام قصداً على جرح المشاعر الدينية للمؤمنين”.
وجاء نشر الفيديو المذكور غداة استدعاء حجار للتحقيق في قضية أخرى من قبل الشرطة العسكرية في بيروت، على خلفية نكتة ألقاها حول عمل عناصر من الجيش اللبناني في خدمة لتوصيل المأكولات بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلد.
فالنقاش القديم حول السخرية وحدودها وعلاقتها بالمحرّمات يتجدد دوماً، سواء لناحية استخدام النكتة كأداة للتغيير السياسي، أو لأن علاقة السخرية بالتجديف أو ازدراء الأديان تأخذ بعداً سجالياً حاداً.
فمن جهة، هناك معسكر يؤكد على ضرورة احترام المعتقدات الدينية ومشاعر المؤمنين وعدم استفزازها، وآخر يتمسك بنقد المعتقدات الدينية والسخرية و”الحق بالتجديف”.
يضاف إلى ذلك السجال الذي بات أكثر إلحاحاً خلال السنوات الماضية حول الصوابية السياسية في السخرية، مع شعور جماعات مهمشة أو مستضعفة أن النكتة قد تكون سلاح كراهية، في حين يرفض كثيرون ذلك ويتحدثون عن نزعة لقتل الطرفة بواسطة نمط من الكوميديا النظيفة.
كل ذلك يطرح تحديات أمام الكوميديين العرب. فما هي “حدود السخرية” وهل تشكل عائقاً أمام عملهم الإبداعي أم لا؟ بي بي سي نيوز عربي طرحت هذه الأسئلة على ثلاثة كوميديين عرب أساسيين في مجال الـ”ستاند أب كوميدي”.
باسم يوسف: التراضي بين الفنان والجمهور
يرى الفنان الكوميدي المصري باسم يوسف أن الكوميديا في لبنان تعدّ سباقة عن الدول العربية الأخرى، من حيث المواضيع واللغة المستخدمة.
لكنّ الحملة التي تعرّض لها نور حجار حديثاً، أظهرت أن تلك الفروقات بين الدول العربية وجماهيرها تتلاشى، حين يصبح هذا المحتوى الكوميدي نفسه متاحاً على الإنترنت أمام الجميع.
يشرح يوسف أن الحملات التي تقاد على فناني الستاند أب تغفل حقيقة بديهية وهي أن لكل عرض جمهور يدفع ثمن تذكرة مقابل الذهاب لحضوره في مسرح أو مكان مغلق.
يقول: “هناك عملية تتم بالتراضي بين الفنان والجمهور الذي يختار بإرادته الدفع مقابل مشاهدة عرض ترفيهي. لكن حين يُنشر العرض نفسه أو مقاطع منه على الانترنت، تصل المادة إلى أشخاص من خارج ثنائية التراضي هذه فتبدأ المشاكل”.
في عروض الستاند أب التي بدأ تقديمها باللغة العربية بعد عروض أخرى بالانجليزية، يعمد يوسف في بداية كل عرض إلى إبرام ما يشبه العقد مع الجمهور داخل المسرح.
ينذرهم منذ البداية بأن العرض غير المخصص لمن هم دون الثامنة عشرة، وفقاً لما ذُكر في الإعلان عنه، سيتضمن كلمات وتعابير هي بالنسبة للبعض “خادشة للحياء”.
يكرر ذلك مرات عدة ويطلب منهم تكرار ما يشبه الهتاف بقول “إحنا جمهور أبيح” (قليل الأدب) ويسترسل في ذلك قليلاً، حتى يعطي مجالاً لمن يزعجه الأمر من الحاضرين لمغادرة العرض وتجنّب أي شعور بالإساءة أو الاستفزاز.
وكان يوسف قد اشتبك مع السلطات المصرية التي منعت برنامجه الشهير “البرنامج” في يونيو/ حزيران 2014 في أعقاب وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، ثم غادر مصر نهائياً.
برأيه إن مواقع التواصل الاجتماعي منحت الناس “استحقاقاً مرعباً”.
“اليوم يستطيع شخص ما في بلد عربي أن يشاهد عرضاً في واشنطن وأن يعطي رأيه به ويطالب بمنعه وبهدر دم الفنان لو أراد. مع أن العرض أصلاً غير موجه له ولا يجدر أن يكون معنياً به أصلاً”. برأيه، الأمر يشبه الذين يطالبون بإقفال مواقع إباحية بينما يستطعون ببساطة ألا يزوروا تلك المواقع.
يعطي مثالاً عن مقطع نشره على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً من عرضٍ قدمه في مدينة إدمنتون الكندية، يستعرض الفروقات الطبقية بين المدينة وبين جارتها كالغاري.
يعجب ذلك الجمهور الحاضر في المسرح الذي يتفاعل بالضحك والتصفيق، فيما وصلته عبر الانترنت انتقادات وشتائم من أشخاص يقطنون في مصر وصفوا المقطع بغير المضحك.
هنا يظهر الفرق بين جمهورٍ مستهدف كُتبت المادة الساخرة له في الأصل، وبين شخص بعيد لن يجدها ذات صلة.
يقول يوسف إنه في حالةٍ أخرى لن يجد هؤلاء المشاهدين مشكلة من الهجوم على الفنان وتهديده، عوضاً عن تجاهل ما لم يعجبه والانتقال إلى أمر آخر.
علاء أبو دياب: إنها نكتة وليست سلاحاً
بالنسبة لفنان الستاند أب الفلسطيني علاء أبو دياب، ما حصل مع نور حجار “مرعب وليس هناك كلمة أقل لوصف ذلك”.
يقول لبي بي سي نيوز عربي: “فجأة ممكن أن يقوم أحدهم باجتزاء نكتة قدمتها منذ خمس سنوات من أجل أن يدمر حياتك”.
مع ذلك، يرى الفنان المقدسي المقيم في السويد أنه ليس هناك حدود للسخرية: “بإمكانك أن تقول النكتة التي تريدها، وبإمكان المتلقي ألا تعجبه. كل شخص حرّ، وفي النهاية إنها نكتة وليست سلاحاً”.
لكنه يضيف أنه لا يحبّ شخصياً أن يسخر من شخص أو فئة ضعيفة، وفي اعتقاده أن الكوميديا وُجدت لتفعل العكس تماماً.
وردّاً على سؤاله عن كيفية تعامله مع حساسيات الجمهور العربي، يقول أبو دياب إنه “يمشي في حقل ألغام”.
“تحاول ألا تتناول مواضيع مستهلكة ومملة، وأيضاً ألا تنفجر نكته ما بك مثلما حصل مع نور حجار”.
يقول أبو دياب الذي انتقل بسرعة قياسية من تقديم مقاطع فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى إقامة عروض ستاند أب على المسارح حول العالم، إنه اعتاد أن يلائم ما يقدّمه مع بيئات مختلفة، “لأنني أقدم أحياناً عروضاً في مدن محافظة وفي المسارح التي تكون عادةً أكثر انضباطاً من نوادي الكوميديا. لذلك اعتدت أن أنتبه أكثر وتعلّمت أن أراوغ”.
يرى الفنان الذي يقدّم عرضه الأحدث “مش أبيض” في بيروت الأسبوع المقبل، أن المساحات التي تعرض الكوميديا في لبنان “بقدر ما هي عظيمة ومريحة وتخلق جوّاً فريداً في العالم العربي، قد تكون أحياناً مضرّة، لأنها تجعلك تعتقد أنك قادر على الخوض في كل المواضيع فقط لأن الجمهور الذي حضر بعض العروض المتتالية صودف أنه كان متقبلاً ومتسامحاً. لكن الواقع مختلف”.
ويضيف “إذا نسي الفنان هذا الأمر، قد يفتقد مهارة أن يؤلف نكاتاً بسقف حرية أكثر انخفاضاً من ذلك الذي يقدمه في فقاعة نوادي الكوميديا”.
شادن فقيه: لا أريد أن أموت بسبب نكتة
من جتها، تقول الفنانة الكوميدية اللبنانية شادن فقيه إن الحملة على زميلها نور حجار أثرت كثيراً عليها وعلى عملها.
وقد تعرّضت فقيه في السابق إلى ادعاء من النيابة العامة اللبنانية بجرم “تحقير مؤسسة قوى الأمن الداخلي” بسبب مقطع فيديو ساخر صوّرته في بداية الإغلاق العام مع تفشي وباء كورونا، قبل أن تمثل أمام المحكمة العسكرية في يونيو/ حزيران 2022 في القضية نفسها.
كذلك هي تتعرض دوماً إلى شتائم وتهديدات على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إنها تتناول مواضيع سياسية بطريقة لا تعجب مناصري الأحزاب اللبنانية ضمن مشهد الاستقطاب الراهن.
تقول فقيه في ضوء الحملة الأخيرة على زميلها: “في النهاية أنا لا أريد أن أموت ولا أن تتعرض عائلتي للأذى. لستُ مع فكرة الشهادة، في الواقع أنا أحارب كي أعيش”.
من أجل ذلك، توضح أنها أدخلت تغييرات على عروضها الحالية، لكن ذلك لا يعني أنها ستتوقف عن التطرق للمواضيع التي تريد التحدث فيها، كما تؤكد.
“أحاول الآن أن أغيّر الأسلوب والطريقة التي أصيغ بها النكات، ولكن لن يكون هناك تابو أو خط أحمر في المحتوى الذي أقدمه”.
توضح أنها ستتناول المواضيع الدينية مثلاً من منطقة فلسفية، و”لكن على الناس أن تفهم أن هناك آلاف الأديان وأنا قد لا أؤمن بأحدها وذلك أمر عادي. على الناس أن تتقبل الانتقاد والسخرية من إيمان أو معتقد ما، لأنني غير ملزمة بالإيمان بما تؤمن به”.
وتضيف: “لبنان ليس بلداً إسلامياً، بل دولة من المفترض أن يحكمها دستور يضمن حرية الاعتقاد والتعبير، وأنا من حقي أن أنتقد الأفكار طالما أنها لا تميّز تجاه الأشخاص أو المجموعات”.
وتستدرك قائلةً: “لكن الواقع مختلف عن هذا الكلام المثالي، إذ أن هؤلاء الغاضبين يظنون أنهم يمتلكون سلطة على الآخرين، وقد يهددون حياتهم لأجل ذلك”.
“ربما علينا أن نحاول قول الأمور بطريقة أخرى” من أجل السلامة من الأفخاخ المنصوبة للكوميديا.
وتختم فقيه بالقول: “يعتقد الناس أننا نقدّم هذا المحتوى من أجل التسلية أو كي نكون حسب القول الشهير: خالف تُعرف. ولكن ما لا يعرفه هؤلاء هو أننا بواسطة هذه السخرية نواجه السلطات التي تخنقنا. ونحاول عبرها فقط البقاء على قيد الحياة”.