بين الإزالة والتطوير.. تنازع الاختصاصات يبعثر تاريخ مقابر القاهرة
- Author, هشام عبد اللطيف
- Role, بي بي سي – القاهرة
على الرغم من مرور أكثر من عامين على تفجر قضية هدم مقابر تاريخية تخص رموزا مصرية في القاهرة، لا تزال القصة تجد تفاعلا وتثير تحركات لوقف أعمال الإزالة.
كان أحدث فصول قصة هدم المقابر، بيان أصدرته مجموعة من الشخصيات السياسية والحقوقية أعلنوا خلاله عزمهم التوجه لتقديم بلاغ للنائب العام ضد المسؤولين والجهات المشاركة في أعمال الإزالة والهدم.
وسبقها إعلان مسؤول حكومي التقدم باستقالته احتجاجا على “حملات إزالة المباني التاريخية”، على حد تعبيره، وذلك قبل أن يسحب منشور الاستقالة من حسابه على فيس بوك.
بداية الأزمة
بدأت السلطات، خلال السنتين الماضيتين، ما سمته أعمال تطوير جنوب شرق القاهرة، ويتضمن إقامة جسور، ما استلزم هدم العديد من مقابر المسلمين التي تقع في مسار تلك الجسور، ما اعتبره البعض فضلا عن كونه اعتداء على حرمة الموتى، فهو “هدم للتاريخ وتفريط في ثروة كان يمكن الاستفادة منها اقتصاديا حال الحفاظ عليها”.
ويرى البعض أنه يمكن تجنب الهدم من خلال البحث عن حلول هندسية ممكنة تحول دون الإزالة، خاصة أن المنطقة تضم مقابر لشخصيات ثقافية وسياسية ضاربة في جذور التاريخ المصري.
وقد احتدم الجدل تحديدا في سبتمبر/ أيلول 2022 بعد تداول أنباء عن اعتزام السلطات هدم مقبرة الأديب الراحل طه حسين، الموجودة في منطقة مقابر التونسي جنوبي العاصمة، لإقامة جسر مروري، وتم تداول صورة ترصد وضع علامة إزالة على المقبرة.
لكن محافظة القاهرة وقتها أكدت عدم صحة أنباء نية هدم المقبرة وتم حذف علامة الإزالة من عليها، ليتفاجأ الجميع بعد عدة أشهر بإقامة الجسر فوق مقبرة طه حسين.
يتجدد الجدل والغضب بين الحين والآخر، مع تداول صور لوضع كلمة “إزالة” على مقبرة لأحد الرموز أو إحدى الشخصيات التاريخية مثل مقرئ القرآن الشيخ محمد رفعت والشاعر الكبير محمود سامي البارودي وغيرهما.
لم ينجح نفي السلطات المستمر لإزالة مقابر الرموز، في وقف الجدل، مع رصد وسائل إعلام جرافات أثناء هدمها العديد من المقابر دون تمييز، وتعرض مقابر أخرى للتخريب مثل مقبرة الشاعر أحمد شوقي التي قالت السلطات إنه بفعل لصوص مجهولين، واعتبر البعض أنها تُركت فريسة للإهمال والتدمير.
وقد أعلنت السلطات عن تشكيل العديد من اللجان المتخصصة لتحديد موقف المباني والمقابر التاريخية وخاصة تلك ذات الطراز المعماري المتميز لاتخاذ الإجراءات المناسبة بشأنها، ولكن تلك الخطوة كذلك لم تؤت ثمارها في تهدئة الرأي العام.
استقالة وبيان
أعلن أيمن ونس رئيس اللجنة الدائمة لحصر المباني والمنشآت ذات الطراز المميز بشرق القاهرة، مؤخرا أنه تقدم باستقالة مسببة من عمله باللجنة، معللا ذلك بعدم جدوى عمل اللجنة التي يرأسها، في ظل استمرار الحكومة في حملات إزالة المباني التاريخية، بحسب ما قال وذلك قبل أن يسحب ونس منشور الاستقالة من حسابه على فيس بوك فيما اعتبره البعض تراجعا عن تلك الاستقالة.
وبعد ذلك بساعات ناشدت منظمات حقوقية ونقابات مهنية وشخصيات عامة في بيان، السلطات، بوقف ما اعتبرته تعديا على مقابر القاهرة التي وصفها البيان، بالتاريخية، معربين عن نيتهم التقدم ببلاغ للنائب العام ضد وزراء السياحة والآثار والأوقاف ومحافظ القاهرة، للمطالبة بوقف التبديد والتدمير للمباني والمقابر بشرق القاهرة.
وذكر البيان أنه تم عرض الحلول والبدائل عن إزالة المقابر، من خلال اللجنة المشكلة من مجلس الوزراء، ومنها الإقرار بكفاءة الطرق الحالية لعشر سنوات قادمة وعدم الجدوى الاقتصادية والمرورية للطرق التي تخترق المقابر.
حشد وبلاغ
أحد الموقعين على البيان، جودة عبد الخالق، وزير التموين السابق، قال لبي بي سي: “إن الهدف من هذا البيان هو أن القضية لا يمكن السكوت عليها.”
واعتبر عبدالخالق أن البيان ضروري لخلق حالة زخم ورأي عام داعم لقضية الحفاظ على المقابر التاريخية، ولتقليل الأضرار.
وأوضح أن قرار التقدم ببلاغ للنيابة العامة، يعد مسارا قانونيا موازيا مع الضغط من خلال الرأي العام، لدفع سلطات التحقيق الأمينة على الدعوى العمومية للشعب أن تتخذ الإجراء القانوني المناسب.
وكشف عبدالخالق أنه قبل إصدار البيان واللجوء لخطوة التقدم ببلاغ للنيابة العامة فقد تم اللجوء لجهات الاختصاص المتمثلة بوزارة الآثار ومحافظة القاهرة ومجلس الوزراء وتم تقديم اقتراحات وحلول بديلة لتلك الجهات لمنع هدم المقابر أو الحصول على ما يفيد الحفاظ عليها، ولكن لم تكن هناك أية ردود من تلك الجهات.
جودة قال إنه لا يملك مقبرة خاصة به أو بعائلته في تلك المقابر المعرضة للهدم ولكنه وغيره من الموقعين على البيان يعتبرون أنفسهم أصحاب حق في تلك المنطقة كسائر الشعب المصري الذي يعتز برموزه التاريخيين المدفونين هناك.
وشدد على ثقته في أن مثل هذه التحركات والضغط الشعبي سيأتي بنتيجة إيجابية وإن لم ينجح في الحفاظ على بعض المباني فسينجح في النهاية في الحفاظ على غيرها.
تنازع قوانين
ويفرق القانون بين نوعين من المباني أولها الأثرية والتي مر على بنائها 100 عام، والثانية هي المباني التاريخية او بالأحرى ذات الطراز المعماري المميز.
ويقول الدكتور أحمد بدران، أستاذ الآثار المصرية بجامعة القاهرة، لبي لبي سي إن المباني الأثرية محمية بموجب القانون 117 لسنة 1983، ولا يجوز التصرف فيها بأي شكل سواء طمسها أو هدمها أو نقلها.
وتابع أن المباني التاريخية أو بالأحرى ذات الطراز المعماري المميز فتخضع للقانون 144 لسنة 2006 والذي تم استحداثه خصيصا للحفاظ على المباني المميزة معماريا.
وأوضح أن المشكلة تكمن في كون المباني ذات الطابع المعماري المميز لم يُسجل منها عدد كبير.
ولم تسجل اللجنة المشكلة لتطبيق القانون المعني بالمباني التاريخية، أكثر من 80 مبنىً فقط لا غير على مستوى مصر كلها منذ صدور هذا القانون، وفق بدران، والذي علل ذلك بتداخل اختصاصات جهات متعددة معا بشأن هذه المباني لتصبح كما يقال “متفرقٌ دمها بين القبائل”.
وشدد أستاذ الآثار بجامعة القاهرة على أن الحل للحفاظ على جميع المباني سواء أثرية أو تاريخية ذات طراز معماري مميز أن يكون هناك قانون موحد يسمى قانون الآثار والتراث وأن تكون جهة واحدة منوطة بتنفيذه متمثلة بوزارة الآثار، يسهل محاسبتها.
ويرى بدران أن أزمة مقابر القاهرة كشفت عوار الوضع القائم، فالمقابر التي هُدمت تقول وزارة الآثار إنها غير مسجلة كآثار، ولجنة المباني المميزة كذلك لم تسجلها.
“صلاحية مهملة”
وقد هدمت السلطات المصرية مئات المقابر مؤخرا في منطقة الإمام الشافعي بالقاهرة القديمة في إطار خطة “تطوير شبكة الطرق” في المنطقة.
ويقول مجدي شاكر، كبير خبراء الآثار بوزارة الآثار، في تصريحات لبي بي سي، إن الزحف العمراني وخاصة في القاهرة وتداخل المباني السكنية مع المقابر، يستلزم تطوير المنطقة، والقيام ببعض الإزالات لعدد من المقابر.
وتابع أن هذه المقابر وخاصة في منطقة الإمام الشافعي لها بالفعل طراز معماري مميز وفريد، ويحرص المصريون منذ القدم على الإنفاق الوفير على المقابر نظرا “لقدسية طقوس الموت عندهم”.
ويرى كبير خبراء الآثار بوزارة الآثار أن الإشكالية تكمن في خضوع تلك المقابر لقوانين مختلفة.
وأوضح أنه لا يوجد في مقابر الإمام الشافعي كلها أي مبنى مسجل وفقا لقانون الآثار سوى “تربة الست” من العصر المملوكي، ومئذنة قوسون من عهد المماليك البحرية، بالإضافة إلى أنه تم العثور في تلك المقابر على بئر مياه من عهد المماليك وكذلك ممر تحت الأرض وهذه فقط هي المباني التي سترممها وزارة الآثار ولا يمكن هدمها أو الاقتراب منها بموجب حماية قانون الآثار لها.
وتابع أن هناك بعض المباني في تلك المقابر ذات طراز معماري مميز وهي تخضع لقانون المباني المعمارية المميزة وهي بذلك تتبع وزارة الثقافة.
وكشف شاكر أن وزارة الآثار لم تستخدم صلاحية يكفلها قانون الآثار وهي أن أي مبنى ذي طابع مميز أو سكنت به أو يخص شخصية لها تاريخ يحق للوزير أن يرفع طلبا للحكومة لضمها وحمايتها، مؤكدا أن هذا لم يحدث مع المقابر ومن ثم لم تخضع لحماية قانون الآثار.
ويرى أن المسؤولين بالوزارة يتحججون بأن تلك المقابر ملكية خاصة ولا يمكن انتزاعها من أصحابها، ولكن كل هذه الأمور لها حلول لو كانت هناك إرادة.
شاكر أشار كذلك إلى أن هناك بعض المقابر تخضع لقانون الحكم المحلي لأنها تتبع إدارة الجبانات في محافظة القاهرة، ومن ثم فتنازع الاختصاصات هو ما أدى لعدم وجود جهة منوط بها السعي والحرص على تلك المباني المميزة والمهمة لتاريخ مصر.