عدنان ينهي رحلة الصيف من المتوسط إلى الأطلسي .. في المحيط متسع للجميع
لم تكن الرّحلة لا في البال ولا في الخيال. وأنا في قاهرة المُعزّ، تلقيتُ دعوةً كريمةً لزيارة الساحل الشمالي. لم تكن لديّ فكرةٌ عن هذا الساحل. أعرفُ البحر الأحمر: الغردقة وشرم الشيخ. وأعرف بحر الإسكندرية الذي سبق لي أن صافحْتُ موجَهُ الأليف، بل وقبل أن أزوره طالما تغنّيتُ به مع الشيخ إمام: “يا اسكندرية / بَحْرِك عَجايب / يا ريت ينُوبْنِي / مِ الحُبِّ نايب”. لم يَنُبني من حبّ الإسكندرية هذه المرّة نصيب.
إلى الساحل الشمالي، إذَنْ، هربًا من حرِّ القاهرة ووطأة أغسطس.
يمتدّ هذا الشريط في أقصى شمال مصر على مسافة 1050 كلم؛ من مدينة رفح شرق سيناء حتى السلوم في أقصى الحدود مع ليبيا. وعلى خلاف المتوسط “الأقصى” الذي تحضُنه الجبالُ وغاباتُها في المغرب، يمتدُّ المتوسط “الأوسط” في الساحل الشمالي بمصر على شريط سهْليٍّ تنعدم فيه المُرتفعات وتندُرُ الأشجار.
يمَّمتُ بدايةً شطرَ أحد شواطئ قرية “مراسي”. الشاليهات هنا فخمة، والمارينا ساحرة؛ أمّا البحر فظاهِرُه فيه النُّعومة لكنّه يُبطن شراسةً غريبة. ثمّ إنّه قويُّ السَّحْب مُتَلاحقُ المَوْجِ شديدُ الاصْطِخاب. النعومةُ هنا خادعةٌ، فالبحر في إهابه اللّازَوَرْديِّ السَّاحرِ يُغريك ويَسْتدرجُك. لكنْ كيفَ السّبيلُ إلى مُجاوزة الرّمل؟ كان فريقُ الإنقاذ المُكلّفُ بحراسة الشاطئ يمنع المصطافين من أيّ تماسٍّ مع الموج. “ممنوع السباحة”. كان القرار صارمًا. هكذا قضيتُ أوّل عشية لي على الشاطئ مُنشدًّا إلى البحر ممنوعًا من خوضِ غماره. تذكّرتُ أغنية بهيجة إدريس: “عطشانة / مكويّة بالنّار/ والمَاء يجري قُدَّامي”.
في اليوم الموالي، يمّمتُ شطر قرية لافيستا بخليج رأس الحكمة. البحر هناك ألطف والموج أقلّ اصطخابا. اللازورديُّ السّاحرُ ذاتُه يليه سماويٌّ غامقٌ يمتدُّ إلى عرض البحر. اقترحَتْ علينا الصديقة فاطمة البودي، ناشرتي العزيزة، مطعمَ مشاوٍ عجيبًا على الشاطئ. وكنّا في اليوم الأول حظينا باستضافة لذيذة إلى سُفرة الصديقة الناقدة أماني فؤاد في الشاليه الجميل الذي تقيم به في “مراسي”. آخر محطّات جولتنا بالساحل الشمالي قادَتْنا إلى “العلمين”. هذه المدينة الرومانية العتيقة، التي دارت على أرضها خلال الحرب العالمية الثانية معركة شهيرة بين قوات الحلفاء ودول المحور، عادت اليوم إلى الواجهة بعدما اختيرت لتحتضن مدينة جديدة من مدن الجيل الرابع في مصر. في العلمين، تمَّت استضافتي أنا ومحاسن من طرف آل فؤاد عبد الحكيم جاد الله إلى سفرة مصرية باذخة.
أذهلَتْنا السُّفْرَة العامرة والرُّفقة الطيّبة عن الاستمتاع بسُكون البحر في العلمين، حتى لكأنّهُ بحيرة هاجعة. ودّعْنا الأصدقاء هناك، وتركناهم يترقّبون إطلالة مغربي آخر، هو المايسترو المغربي الشاب أمين بودشار. ستكون فرصةً ليُغنّي مصطافو الساحل الشمالي هم أيضا “جانا الهوا جانا” ببهارات بودشار. لكنني أخشى أنّ الجمهور لن يكون متنوِّعًا كما هو الحال في المغرب. جمهور حفلات بودشار في المغرب متنوّع الأجيال والطبقات والفئات الاجتماعية، تمامًا كمُصطافي الشواطئ المغربية.
في شواطئ السّاحل الشمالي تحسُّ نفسك في مستوطنات، في منتجعات مُسوّرة خاصّة بالطبقات الميسورة؛ المقاهي، المطاعم، المارينا، نوعية البشر الممدّد على الشواطئ، كل شيء جميل وراق وبديع. لولا أنني ألِفْتُ الخلطة المغربية العجيبة، حيث التعايش هو الأصل.
ومثلما احتميتُ بالسّاحل الشمالي من صهد القاهرة، لم أحتمل آب مراكش اللهّاب فاستجرتُ منه بعاصمة الصيف المغربي طنجة. كان أخي طه يقضي عطلته هناك، فيمَّمتُ شطرهُ مباشرةً بعد عودتي من مصر. هناك، ذهبنا فور وصولي إلى شاطئ الأميرالات (بلايا بلانكا). أردت أن أصافح موجه، لكن مويجاته كانت خجولة ناعمة ليست كموج الساحل الشمالي التي فاجأتْني شراستُها. كذلك الأخضر الزَّيتي الصافي صفاء زيت بكرٍ هنا لا علاقة له بلازورديِّ الساحل الشمالي بمصر. في اليوم الموالي، اقترح طه أن نقضي اليوم في شاطئ واد المرسى، الذي انطلق منه طارق بن زياد لفتح الأندلس، لكنّني اعتذرتُ بشدّة. لا يمكنني أن أكون في طنجة، وأذهب يومين على التوالي إلى البحر نفسه. في طنجة، اعتدتُ أن أقضي يومًا على شاطئٍ بالضفة المتوسطية، لأيمّم في اليوم الموالي شطر شاطئٍ على المحيط. ثم إنني اشتقتُ للأطلسي الجبّار. مرَرْنا رفقة لطيفة الحمّود على المقبرة الرومانية بهضبة مرشان، ونحن بين قُبورها الدّارسة التقطنا صُورًا لخليج طنجة. لطيفة بنت طنجة وعاشقتها ومحاميتها الأولى. رغم أنّها غادرت قبة البرلمان، مازالت تترافع من أجل طنجة في كل المحافل. الطريف أنّ الطنجويّين أحيانًا يُعاتبونها على صفحتها الفيسبوكية كلما أزعجتهم بعض اختلالات التسيير في المدينة، وكأنّها الحاكمةُ بأمرِهِ في عروس البوغاز؛ وهي عبثا توضّح كل مرة أنّها غادرت البرلمان الذي ولجَتهُ أصلًا بصفتها من الجالية المغربية بالخارج. لكنَّ تفانيها في خدمة طنجة وتعصُّبها الكبير لمدينتها وقَرَ في قلوب الطنجويّين، وها هي تؤدّي ضريبة ذلك.
لكن، يا لطيفة، علينا أن نذهب إلى الشاطئ.
إلى المحيط إذن.
توقفنا لبُرهة بـ”كاب سبارطيل”، هناك بملتقى البحرين: حيث يعانق المتوسط الأطلسي، ثم استأنفنا الرحلة. تجاوزنا شاطئ أشقار، لنحطّ الرّحال بشاطئ ميتراغاز الفسيح.
يا لهوي، هذا ليس بحرًا، دا محيط.
تذكّرْتُ صديقنا فريدة أبو سعدة، الشاعر المصري الجميل. كنّا في الرباط حينما سمعنا بوفاة الأديب العزيز محمد زفزاف، صاحب “الثعلب الذي يظهر ويختفي”، فقرّرنا الذهاب إلى الدار البيضاء لحضور مراسيم دفنه. كنا في شهر يوليوز من عام 2001، ولكيلا يكون سفرنا خاليا من المتعة أخذْنا الطريق الساحلي بدلًا من الطريق السيّار. كان المحيط يومها غاضبا. هل بسبب رحيل ديستويفسكي الأدب المغربي أم لأسباب أخرى غامضة؟ لكن الموج كان صاخبا بشكل غير معتاد في تلك الفترة من السنة، فما كان من صديقنا فريد إلّا أن بدأ يردّد بذهول:
يا لهوي، دا مش بحر دا. دامُحيييييط.
اليوم، أكتب هذه التدوينة من شاطئ الحوزية، قرب مدينة الجديدة. أكتب من الشرفة والبحرُ يصطخبُ أمامي. ليس هناك ما هو أجمل من أن تكتب في شرفة أمام البحر. الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل. الأنوار مطفأةٌ إلّا في شرفتي، لكنَّ صخب الموج شديد. وأنا لا يُريح أعصابي صوتٌ أكثر مما يفعلُ الهدير. هذه الأيّام أقرأ على الشاطئ رواية “احترسوا من المظليّين” لفؤاد العروي. ممتعٌ أن يقرأ المرء وهو في شواطئ الجديدة لكاتب من الجديدة. وأيُّ كاتب؟ فؤاد العروي شخصيًّا. جائزة الغونكور للقصّة من فضلكم. اعتدْتُ أن أقرأ لفؤاد، وهو صديق عزيز، بالفرنسية. لكنني اليوم أقرأ هذا السّاخر الكبير بالعربية في ترجمة موفّقة للصّديق هيبتن الحيرش صادرة عن دار الفاصلة للنشر. في رواية فؤاد العروي البديعة يسقط مظليٌّ بالصدفة على “فلان” فتتغيّر حياته. تصوّر أن تكون في طريقك إلى العمل، فإذا بمظليٍّ يسقط عليك ويصطدم بك؟ تصوّر أنك لم تبذل جهدا لتفادي الاصطدام؟ تصوّر أنّك تعاطفت مع المظلّيِّ المسكين وأخذته على سبيل التعاطف إلى بيتك؟ ماذا سيكون مصيرُك؟ أعوذ بالله، ماذا سيكون مصيرك؟ لهذا أقرأ “احترسوا من المظليّين” باستمتاع. أقرأها وأنا أضحك، أحيانًا أقهقه. لكن، لا أحد ينتبه لقهقهتي لأنّ هدير الموج صاخبٌ هنا. معي في الإقامة كاتب مغربي آخر بالفرنسية هو الصّدّيق الرّبّاج. صاحب روايات “إن شاء الله” و”مدرسة الرمال” و”المصارع” و”سيدي سافو”. كنتُ على الشاطئ أقرأ لفؤاد العروي والصّدّيق إلى جانبي يقرأ العمل المسرحي الأخير لصديقتنا سعاد الجامعي. أمّا محاسن فتقرأ كتاب هشام جعيّط “الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية”. لا أطيق الكتابات النظرية على الشاطئ. أفضّل الروايات والقصص. أمّا بيان، طفلتي، فقد آثَرَت النّوم. لكن فيما هي تغطُّ في هدأة النوم، عَنَّ لهذا البحر الجبّار أن يمارس عربدته المُتغطرِسَة علينا، فإذا بالموج يلفُّ الطفلة النائمة لفًّا. استيقظتْ بيان فزِعَة وأخذت في الصُّراخ. تذكَّرتُ فريد أبو سعدة:
– يا لهْوِي، دامحيييييط…
طيّبْنا خاطر بيان، لكنّها حتى الآن ترفضُ مُصافحة هذا المحيط الغادر. لكن العالية بنت الصّدّيق الرّبّاج لا تهابُ البحر، بل كانت تغشاه معي بجرأة وجسارة. قلتُ لها: “هذا ليس شاطئا. هذه حلبة ملاكمة. يجب الحذَر من الخصم، إذا انثال عليك موجُهُ الضّاري يجب الغطس لتفاديه”؛ لكنّه أحيانًا ينال منك فيطوّح بك قبل الغطس فإذا أنت مُنكَّلٌ بك مثل الخِرْقة الخَلِقَة. يا لَجبروت هذا البحر. تذكّرتُ شاطئ “مراسي” والحارس المسكين الذي شرح لي أنّ العوم ممنوع لأنّ الموج خطِر. تعال هنا يا صديقي لترى الأطفال الصغار يُقارِعون الموج العاتي الجبّار ويحتالون عليه، تعال لتفهم أنّ المغربي الذي كان يفاوضك من أجل غطسة لم يكن مُدَّعيًّا، بل كان يعرف أنّ ما تمنعُ مُصطافي الخمس نجوم عنهُ هناكَ حمايةً لهم ليس خطيرًا إلى هذا الحدّ. على الأقل، مقارنة بهذا الجبّار الذي نستمتع بمراودته هنا عن أمواجه العاتية.
ليس الموجُ وحده ما يصنع الفرق، بل أشياء كثيرة. ما أحبُّه في شواطئ هذا البلد هو ديمقراطيتها؛ كل الشواطئ متاحةٌ للعموم. عليةُ القوم إلى جانب أبناء الطبقة الوسطى إلى جانب القرويّين من أبناء المنطقة إلى جانب السُّياح الأجانب وسُكان فنادق الخمس نجوم، فالمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء… كلٌّ يسبحُ جنبًا لجنبٍ. فالشاطئ فضاءُ تعايُش، والتعايش مطلبُ المغاربة. وفي المحيط متّسعٌ للجميع.