ما قصة الفتاة التي تنفر من الملابس الجديدة وتشتري المستعملة فقط؟
- Author, هيفار حسن
- Role, بي بي سي نيوز عربي
رغم أنها في ربيع عمرها، ولديها المقدرة المالية لشراء ما تشاء من أزياء ومقتنيات شخصية أخرى، إلا أن لوسي ليست كالكثيرين من أبناء جيلها، فلا تغريها صيحات الموضة الموسمية المتغيرة بوتيرة متسارعة، ولا تضعف أمام مواقع التواصل الاجتماعي التي تفيض بالإعلانات المغرية، بل اختارت التوجه نحو شراء الملابس المستعملة فقط.
أدركت لوسي سركيسيان ، 18 عاماً – وهي شابة هولندية من أصول أرمنية – أن صناعة الموضة وعاداتها الشرائية تضران بكوكب الأرض بشكل هائل منذ أن كانت طفلة في الرابعة عشر من عمرها، وأدركت أن أزمة المناخ آخذة في التفاقم.
وتقول لوسي: “لن تؤدي الأفعال الفردية الصغيرة إلى النتائج المرجوة، لكننا مجتمعين نستطيع إحداث فرق كبير إذا اعتمدنا جميعنا على نمط وأسلوب حياة أكثر استدامة، وأخذنا على عاتقنا مسؤولية إرشاد الجيل القادم لمعرفة حجم الضرر الذي تلحقه صناعة الألبسة بالبيئة”.
وبالإضافة إلى حجم الضرر الكبير الذي تلحقه صناعة الألبسة بالبيئة، فهي تنتهك حقوق الإنسان أيضاً.
وتقول لوسي التي ستلتحق بالجامعة في عامها الأول: “كانت المرة الأولى التي اشتريت فيها قميصاً صديقاً للبيئة، في عمر الـ 14 عاماً، لفت انتباهي ملصق كان على القميص ذكر أن صناعته تمت بشكل مستدام”.
كانت تلك العبارة نقطة تحول لديها، وبدأت تتساءل: هل هناك ملابس مستدامة وغير مستدامة؟ ماذا يعني ذلك؟
هل صناعة الألبسة خطرة إلى هذه الدرجة؟
يتساءل كثيرون، هل حقاً صناعة الألبسة بهذه الدرجة من الخطورة على البيئة؟
في الواقع، ليست صناعة الألبسة فقط هي التي تؤثر سلباً على البيئة، لكنها الأكثر ضرراً بسبب الوتيرة المتسارعة التي تتغير بها الموضة من موسم لآخر وتغري المستهلك بشرائها لمواكبتها، حيث تشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى أن سروالاً واحداً من الجينز يتطلب كيلوغراما من القطن، ويستهلك إنتاج كيلوغرام من القطن ما بين 7,500 إلى عشرة آلاف لتر من المياه.
ويعد بعض أنواع الجينز الأكثر رواجا من أشد الأقمشة ضررا على البيئة، إذ تلوث صبغات القماش المسطحات المائية، وتدمر الحياة البحرية، وتلوث مياه الشرب. ويُصنع بعض الجينز الضيق “ليكرا على سبيل المثال” من أقمشة اصطناعية مرنة مستخرجة من البلاستيك، من الصعب إعادة تدويرها، ومن ثم يتضاعف تأثيرها على البيئة.
تسهم صناعة الأزياء بنحو 10 في المئة من الإجمالي العالمي لانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وتنتج نحو 20 في المئة من مياه الصرف عالميا، وتستهلك كمية من الطاقة تفوق ما يستهلكه قطاعا الطيران والنقل البحري معاً.
لكن بالنسبة للوسي، السبب في مقاطعة الألبسة الجديدة ليس بسبب دورها الكبير في تدمير البيئة فحسب، بل وأيضاً لأن شركات صناعة الألبسة الكبرى “تنتهك حقوق الإنسان، في البلدان التي يتم فيها صناعة منتجاتها مقابل أجور زهيدة وظروف عمل قاسية وحرمان العمال من كامل حقوقهم”.
قرأت لوسي أيضاً الكثير عن “الغسل الأخضر” (Greenwashing)، وهي ظاهرة يتم من خلالها تضليل المستهلكين حول الممارسات البيئية للشركة أو الأضرار البيئية لمنتج أو خدمة ما. حيث تقوم بعض العلامات التجارية باستخدام ملصقات تشير إلى أن منتجهم مستدام، بغرض زيادة مبيعاتها وجذب المهتمين بالبيئة أمثال لوسي وغيرها، لكنهم يخفون بعض المعلومات التي تهم المشتري الصديق للبيئة، مثل عدم إرفاق معلومات حول ظروف العمل والأجور الزهيدة التي يتقاضاها العمال لإنتاج القطعة الواحدة، أو إخفاء حجم الطاقة المستخدمة في الإنتاج، أو الهدر الحاصل في عملية الإنتاج وما إلى هنالك.
إن الملابس المستعملة ليست مفيدة للبيئة فحسب بل توفر المال أيضاً في ظل ارتفاع الأسعار في جميع أنحاء العالم.
وتقول: “إذا كان بإمكاني دفع أربعة يورو فقط ثمناً لشراء قميص من ماركة بولو المتميزة بجودة عالية على سبيل المثال، لماذا أدفع خمسين يورو ولا أوفره لأغراض وقضايا نبيلة أخرى وأخفف من بصمتي الكربونية في نفس الوقت؟”.
وتشرح لوسي ردوج فعل أقاربها عندما تحولت إلى الملابس المستعملة: “كانت ردود فعلهم محبطة للغاية عندما كنت أتحدث عن البيئة وما أقوم به للمساعدة في الحد من انبعاثات الكربون”.
“كانوا يسخرون مني ويقولون أن أفعالي لن تجدي نفعاً. كنت أتألم لسماع تلك التعليقات السلبية، لكنني لم أستسلم، ورويداً رويداً، بدأ البعض منهم يدرك ما أعنيه واقتنعوا بما اقوم به”.
وتشعر لوسي بالفخر لأن بعض أصدقائها وأقاربها حذوا حذوها بعد أن رأوها سعيدة ومصرة على المضي قدماً في العادات الصديقة للبيئة.
وتقول: “إن أفضل طريقة لتعريف الناس بالحياة المستدامة هي أن تفعل ما تراه صحيحاً، ولا تولي اهتماماً لما قد يعتقده البعض، أحاول دائماً العمل بهذه المقولة: “كن مثال التغيير الذي تريد رؤيته في العالم”.
إصلاح الملابس القديمة من أجل الاستدامة
يقول محمد مصطفى، 44 عاماً، وهو خياط سوري يمتلك ورشة لتصليح الملابس في جنوب لندن: ” المبالغ التي يدفعها بعض زبائني أحياناً مقابل تصليح معطف أو فستان ما، يصيبني بالذهول والدهشة”.
“يصل ثمن إصلاح القطعة الواحدة في بعض الأحيان، إلى 400 جنيه استرليني، أي ما يزيد عن 500 دولار، لكنهم يقبلون ويدفعون المبلغ. سألت أحدهم عن سبب دفع هذه المبالغ الطائلة مقابل تعديل قطعة بالية لا تستحق هذا المبلغ الكبير، فقال لي بعضهم إن الأمر لا يتعلق بقدرتنا الشرائية بقدر رغبتنا في الحفاظ على بيئتنا خضراء ونظيفة”.
كان مصطفى مندهشاً ومذهولاً من هذا السلوك الواعي، ويقول إنني أتعلم من زبائني الكثير، وأحاول تطبيق بعض العادات التي أستطيع القيام بها للمساعدة أيضاًً”.
لعل سلوك لوسي وأمثالها من المهتمين بالبيئة، في ارتداء الملابس يذكر الكثيرين منا بعادات جداتنا وأمهاتنا العفوية التي كانت مستدامة بدون وعي. حيث كانت الأجيال تتوارث الملابس لتنتهي بها المطاف عند الأقارب أيضاً والجيران.
هل يحد الشراء عبر الانترنت من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري؟
رغم أن عمليات الشراء عبر الانترنت أقل ضرراً بالبيئة من عمليات الشراء من المتاجر، إلا أن لها بعض السلبيات أيضاً بطريقة ما، لأنها تشجع المستهلك على شراء ما يزيد عن حاجته الفعلية بسبب الأسعار الرخيصة.
كانت السيدة اللندنية الأربعينية أسمهان التي لديها طفلين، قد أدمنت التسوق عبر الانترنت بسبب رخص ثمن المنتجات مقارنة بتلك الموجودة في المتاجر العادية، ولسهولة عملية الشراء نفسها، ولم تكن ترى سبباً لشراء الملابس المستعملة التي قد تتساوى أسعارها مع البضاعة الرخيصة الجديدة.
وتقول: “كانت الإعلانات تظهر أمامي كلما تصفحت مواقع التواصل الاجتماعي، لكنني بعد شرائها، كنت أعيد نسبة كبيرة منها، لأسباب مختلفة مثل رداءة القطعة أو عدم دقة القياسات وغيرها من الأسباب”.
لم تكن أسمهان تعلم أن عملية إعادة السلع إلى المتجر الالكتروني بحد ذاتها تضاعف من انبعاثات الكربون، ولا سيما أثناء عملية التوصيل، كما أن بعض متاجر البيع عبر الإنترنت تعمد إلى التخلص من السلع المرتجعة أو حرقها لأن إعادة بيعها قد يكلفها مبالغ أكبر.
أشارت تقديرات وكالة حماية البيئة الأمريكية إلى أن 10.2 مليون طن من الأقمشة في عام 2017 انتهى بها المطاف في مكبات النفايات، بينما كان مصير 2.9 مليون طن من الأقمشة الحرق.
وقد تكون الطريقة المثلى للحد من تأثير التسوق عبر الإنترنت على البيئة هو شراء الملابس التي تحتاجها وتنوي الاحتفاظ بها فقط. إذ ذكر تقرير للبنك الدولي أن 40 في المئة من الملابس التي يشتريها الناس في بعض الدول لم تستخدم قط.
قررت أسمهان تغيير عاداتها الشرائية بعد أن قرأت مقالاً عن البيئة في موقع بي بي سي بحسب قولها، وباتت تشتري حوالي 60 في المئة من لوازمها واحتياجات أسرتها من سوق البضائع المستعملة.
“أصبحتُ أكثر وعياً بمخاطر الألبسة الجديدة واللحوم والأطعمة المغلفة في علب البلاستيك على البيئة وتغير المناخ”.
هل من عوائق وصعوبات؟
تقول لوسي إن البعض من حولها يسألونها ما إذا كانت تواجه أي صعوبات في التحول إلى السلع المستدامة.
وتكون إجابتها دائماً فورية وبدون تردد: لا.
لا تزال لوسي تساير الموضة وتستمتع بالمساحيق وأدوات التجميل والمجوهرات بنفس القدر الذي يسعد به آخرون عند شرائهم السلع الجديدة، الفرق بينها وبين غيرها هي أنها تحرص على انتقاء السلع المستدامة الصديقة للبيئة.
وتقول: “بالطبع، أنا لست مثالية لكنني وجدت جوانب في حياتي يمكنني جعلها أكثر استدامة بدون الكثير من الجهد. بالنسبة لي، ينصب تركيزي على المنتجات والملابس المستعملة، و آخرون قد يكونون قادرين على التحكم بطرق ونوعية الأغذية على سبيل المثال، كأن يتناولوا وجبات أقل من اللحوم أسبوعياً أو يجدوا طريقة بديلة عن مواد التنظيف الكيميائية”.
“حتى لو ألهمت شخصاً واحداً فقط، يسعدني ذلك، لأن هذا الشخص بدوره سيحمل الرسالة إلى آخرين وهكذا دواليك”.
وتضيف: “ثمة تغييرات طفيفة أطبقها في حياتي اليومية أيضاً مثل التحول من فرشاة الأسنان البلاستيكية إلى فرشاة أسنان مصنوعة من الخشب أو من مواد قابلة للتحلل، واستخدام كوب القهوة الخاص بي بدلاً من استخدام الأكواب غير القابلة للتدوير، كما أنني خففت عدد وجبات اللحوم رغم أنني لست نباتية، فضلاً عن أن رحلاتي في أغلب الاحيان تكون سيراً على الأقدام أو بواسطة الدراجة الهوائية، وفي الحالات القصوى أستقل وسائل النقل العامة الأقل ضرراً بالبيئة، أما في حالات الطقس القاسية في فصل الشتاء حيث الرياح الشديدة والأمطار الغزيرةـ فيقلني والدي بسيارته”.
ولتجنب الهدر والحد من إلحاق الضرر بالبيئة، تلجأ لوسي إلى بيع ملابسها ومقتنياتها التي لا تحتاجه إلى متاجر الكترونية تبيع وتشتري البضائع المستعملة.
وتقول: “أعتقد أنه يجب على الجميع المساهمة، ولكن لا ينبغي لأحد أن يشعر بالضغط للقيام بجميع الأشياء على أكمل وجه، لسنا مثاليين، لكننا نفعل ما بوسعنا لإنقاذ كوكبنا، كل حسب قدرته وطريقته”.
“لقد مُنحنا نحن البشر نعمة مشاعر الرأفة والتعاطف، فلنستخدمها لخدمة قضايا نبيلة جيدة مثل الاستدامة”.