إصدار يقارب الاقتصاد السياسي والحكامة

صدر، مؤخرا، العددان الثاني والخمسون والثالث والخمسون من المجلة المغربية للتدقيق والتنمية، التي يديرها الأكاديمي محمد حركات، أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط، في 626 صفحة من الحجم المتوسط، بمناسبة الذكرى الثلاثين على تأسيس هذه الدورية 1992 – 2022، تحت عنوان “الاقتصاد السياسي والحكامة “البراديغمات والآليات”، متضمنة أشغال الندوة الدولية العشرين التي نظمتها المجلة بالرباط يومي 6 و7 ماي 2022 بمساندة المؤسسة الألمانية هانس زايدل وبتنسيق مع مجموعة أخرى من الشركاء حيث تم تقديم أكثر من أربع وأربعين دراسة في الموضوع.
ويأتي هذا الإصدار في خضم الأزمات متعددة الأبعاد التي تعرفها منظومة الإنتاج العالمية وتوجه مجموعة “بريكس” للتمدد والتوسع في مواجهة الاقتصاد الغربي ومراكزه المالية الدولية، فضلا عن مطالبة بلدان عديدة في إفريقيا إلى إعادة التفكير في تدبير خيراتها وثرواتها من أجل توظيفها في التنمية الشاملة واسترجاع سيادتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية عبر الانفلات من التبعية والاستغلال الناجمين عن الاستعمار التاريخي، حالة اندحار فرنسا من مستعمراتها القديمة لاسيما في مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وفي هذا السياق العالمي المضطرب، ينبغي التساؤل عن كيفية إعادة التفكير لنجعل الاقتصاد السياسي الدولي اليوم أكبر في معالجة الأزمات والتحولات العديدة التي يعرفها العالم من حولنا للبحث عن حلول ابتكارية إنسانية في منظومة الإنتاج ترتبط بتركيم الثروة وتوزيعها واستهلاكها وعلاقة ذلك بحكامة الدولة والمنظمات الدولية والمقاولة والمجتمع المدني والمواطنين أمام المسؤولية الاجتماعية للجميع.
كما يتزامن هذا الإصدار باحتفال دوائر علمية دولية عديدة مهتمة بذكرى مرور ثلاثة قرون على ميلاد الفيلسوف وعالم الاقتصاد الإسكتلندي البارز آدم سميث (1723-1790)، صاحب مؤلف “ثروة الأمم”، وما تضمنه من إرث أخلاقي وعلمي عظيمين حول موضوع الاقتصاد السياسي بشأن تثمينه لقيم العمل ودور “اليد الخفية” في ضبط السوق وتأكيده على النفور من الثروة التي تفسد الروح رغم اعتبارها محرك التقدم والرفاه؛ فالجشع والرغبة المتزايدة في الاستهلاك يؤديان، حسب سميث، إلى هدم المجتمع وعدم الاهتمام بالآخرين بدل نشر قيم التضامن والتسامح والمساواة أمام القانون والعدالة.
وتكمن أهمية هذا الكتاب الجماعي في تناوله لمجموعة من الإشكاليات الإبستمولوجية والمنهجية والعلمية المتمثلة في مدى الحاجة اليوم إلى بناء اقتصاد سياسي نقدي جديد لمقاربة الأزمات والتحولات الجيواستراتيجية التي يعرفها العالم على ضوء تداعيات جائحة كوفيد -19 والحرب الروسية الأوكرانية وإعلان مجموعة “بريكس” بجوهانسبورغ وتنامي مطالبة البلدان الإفريقية برحيل فرنسا عنها بعد عقود عديدة من استغلال خيراتها المعدنية، من أورانيوم وذهب وخشب وطاقة.
كما تطرح البحوث المقدمة بعض مظاهر الأزمة وعلاقتها بالحكامة الاستراتيجية وضمان سيادة الدولة من خلال المناداة إلى بناء نموذج تنموي كوني جديد يضمن تحصين كرامة الإنسان مع التأكيد على الدور الطلائعي الذي ينبغي أن تلعبه الدولة بجانب القطاع الخاص وباقي المستثمرين والفاعلين في ضبط الأولويات الاجتماعية الإستراتيجية والدعوة إلى العمل وحماية المقاولات الإنتاجية، لا سيما الصغرى والمتوسطة منها.
وفي هذا السياق، أكد كافة الباحثين المختصين المتدخلين على دور الدولة في بلورة رؤية إستراتيجية للتنمية الشاملة عمادها الكفاءة والاستحقاق والتشبيك والتكوين والبحث العلمي والتكنولوجي وبناء القدرات المؤسساتية والإستراتيجية وتعزيز الصلابة الاقتصادية والمالية واللوجستية والبشرية من خلال التركيز على تبني مقاربة شاملة في تقييم السياسات العمومية ومدى نجاعة الأداء والمساءلة والشفافية ضمنها وما يتطلبه ذلك من رؤية استراتيجية وديمقراطية لتامين اقتصاد الحياة.
وجاء القسم الثاني من الكتاب تحت عنوان “الفاعلون والميكانزمات”، وعالج مختلف الوظائف والمهام التي ينبغي أن ينهض بها مختلف الفاعلين والمؤسسات الدولية والمحلية في السيطرة على الأزمة وضمان الصلابة اللازمة في مواجهتها في زمن يتميز بظهور سلع وخدمات جديدة تستلزم نشر قيم المسؤولية الاجتماعية في كل الأوساط من أجل حماية البيئة وتامين الصحة والتغذية والموارد المتوفرة من خلال تدبير الندرة في الشغل والطاقة والماء وتقويم كافة المخاطر المرتبطة بها من خلال توفير الإعلام والمراقبة الداخلية والتخطيط والتوقع.
وهذا رهين، أضافت ورقة تقديمية توصلت بها هسبريس، بتقوية دور الدولة الاجتماعية وتعزيز دور القطاع العام والشراكة مع القطاع الخاص في التنمية المتوخاة، وفق مبادئ القانون التنظيمي للمالية الذي ينص على نجاعة الأداء والإدارة بالأهداف والنتائج وحسن التدبير والشفافية والمساءلة المالية والسياسية، عبر رفع التحديات المتعلقة بتعميم الحماية الاجتماعية وتجويد الخدمات العامة؛ من صحة وتربية وتكوين وبحث علمي وابتكار وحكامة رقمية وتشريعية وقضائية وقانونية، فضلا عن تعميم نشر المعلومة وتقاسم التجارب الفضلى وبلورة منظومة فعالة في الرقابة الداخلية على كافة القطاعات الاجتماعية والإنتاجية عمادها نشر قيم التضامن والمساءلة والشفافية في المجتمع ومكافحة كل أوجه الفساد الإداري والمالي داخل كافة المنظمات.