أخبار العالم

نكبة الوزير الأديب لسان الدين بن الخطيب .. دروس وعبر من مكائد السياسة



قال الكاتب المصطفى حميمو إن كتب المؤرخين المسلمين مليئة بأعمال شنيعة في حق كثير من الحكام، بمن فيهم الملوك والسلاطين، ومن المحكومين، مرجعا ذلك إلى النزعة التمجيدية التي لا تزال تطبع تاريخ المسلمين في برامج التعليم وبرامج الإعلام.

واستحضر حميمو، في مقال توصلت به هسبريس، نكبة الوزير ابن الخطيب، التي جاءت في كتاب “الاستقصا” لأحمد بن خالد الناصري، مضيفا أنه وجد كتب المؤرخين متوازنة في سرد أحداث ماضي السلف، وأنهم كانوا موضوعيين لا يحابون في الغالب أحدا، وأكد أن تاريخ بتوازنه غني بالدروس والعبر.

وهذا نص المقال:

أحداث هذه الفاجعة المثيرة للشفقة على أسلافنا حكاما ومحكومين جاءت متفرقة في كتاب “الاستقصا” القيّم لأحمد بن خالد الناصري رحمه الله. جمّعتها في هذا المقال مختصرة وبأسلوب العصر، مع حذف كل التفاصيل غير الضرورية التي لا يتسع لها حجم مقال، وذلك مع خاتمة استخلصت فيها ما أوحت لي به تلك النكبة من دروس وعبر.

كان ابن الخطيب وزيرا لأبي الحجاج بن الأحمر صاحب غرناطة في زمن لم يبق للمسلمين بالأندلس غيرها مع جبل طارق والجزيرة الخضراء. ثم هلك هذا السلطان وهو ساجد في مصلى عيد الفطر بطعنة سكين من ثائر، فتمت البيعة لابنه محمد المكنى بالغني بالله. وانفرد ابن الخطيب بوزارته كما كان الحال مع أبيه من قبل، ومشت معه الأمور على أحسن حال.

وكان للغني بالله أخ اسمه إسماعيل، احتفظ به عنده بقصر الحمراء خوفا منه على مُلكه إِلَى أن تسوّرت جمَاعَة من شيعَة الأمير الْمَحْبُوس القصبة لَيْلًا وأخرجته من محبسه وبايعته مكان أخيه، ثمَّ اقتحمت دار حَاجِب السلطان وقتلته في فراشه بين نسائه واستبدت بالأمر، وقبضت على الوزير ابن الخطيب بعد ما أغرت به صاحبها وأودعته السجن واكتسحت داره ونهبت كل أمواله التي لا تحصى ولا تقدر بثمن. واستفاق السلطان الْغَنِيّ بِاللَّه من نومه على قرع الطبول، فاكتشف ما حصل وعلم بخبر خلعه وتولية أَخِيه، فَركب فرسه وهرب.

وعلم بذلك سلطان المغرب أبو سَالم المريني، الذي َكَانَت لَهُ صداقة مع بني الأحمَر منذ كَانَ مقيما عِنْدهم بالأندلس مع غيره من أمراء بني مرين، فعرض على الأمير الثائر استضافة أخيه المخلوع. وكتب حينها إسماعيل إلى شيعته يأمرهم بتخلية سبيله وسبيل وزيره ابن الخطيب كي يرحلا إلى المغرب فسُرّحا. ولما وصلا إلى تلمسان عبر سبتة وجدا في السلطان أبي سالم خير مجير وخير مضيف.

ومع صدمة هذه النكبة اعتزم ابن الخطيب التخلي عن الجاه والسلطان والتفرغ للعبادة واغتنام بقية العمر فيما يرضي الله من الزهد والتأمل. واستأذن حينها السلطان الجديد أبا زيان المريني في التجوال قبل ذلك بالمغرب لزيارة قبور الصالحين بمراكش وغيرها. وما من مكان مر به إلا أعجب به وقال فيه وفي رجاله وأهله ما جادت به قريحته من شعر ونثر. ومن ذلك قوله في مراكش: “وقفت على قبر الْمُعْتَمد بن عباد فِي مَدِينَة أغمات فِي حَرَكَة أعملتها إِلَى الْجِهَات المراكشية، باعثها لِقَاء الصَّالِحين ومشاهدة الْآثَار وَهُوَ بمقبرة أغمات فِي نشز من الأَرْض وَقد حفت بِهِ سِدْرَة وَإِلَى جنبه قبر اعْتِمَاد حظيته مولاة رميك وَعَلَيْهِمَا أثر التغرب ومعاناة الخمول من بعد الْملك. فَلم تملك الْعين دمعها عِنْد رُؤْيَتهمَا فأنشدت فِي الْحَال”. ثم استقر أخيرا بسلا.

لكن حصل أن الْغَنِيّ بِاللَّه بن الْأَحْمَر المخلوع عاد إِلَى ملكه بالأندلس من بعد الانقضاض على أخيه إسماعيل وخلعه. واستعاد من فاس ما خلّفه فيها من المتاع والأهل، كما انتزع وزيره ابن الخطيب من عزلته وأعاده معززا مكرما إلى حضرة ملكه بغرناطة، ثم ترك له تدبير كل شيء في الدولة كي ينفرد هو بندمائه في خلوته. حينها بلغ ابن الخطيب من الجاه والسلطان ما لم يعهده من قبل حتى صار قبلة الخاصة والعامة من داخل الدولة وخارجها، فتوافق حُسّاده على السعاية به عند السلطان الغني بالله الذي عزّ عليه ابتداء قبولها منهم.

ولما نما ذلك إلى ابن الخطيب خشي على نفسه، فحنّ من جديد إلى العزلة التي ألفها بسلا بعيدا عن متاعب الجاه والسلطان. وفكر في النجاة بنفسه فكتب بذلك إلى سلطان المغرب الجديد أبي فارس عبد العزيز، فسُر السلطان بذلك ووعده بالجوار الجميل والمقام الهنيء. حينها استأذن ابن الخطيب سلطانه الغني بالله في الخروج مع فرسانه بدعوى تفقد الثغور الغربية من أَرض الأندلس. ولما اقترب من جبل طَارق الذي كان تحت حكم بني مرين، مال إليه وخرج قائده لاستقباله كما أوصاه بذلك سلطانه عبد العزيز وأركبه إلى سبتة. ومنها سار ابن الخطيب حتى َقدم على السُّلْطَان بتلمسان مرة أخرى حيث حظي منه باستقبال حار لا يليق سوى بالملوك.

لكن عزّ حينها كل ذَلِك على نفس ابن الأحمر الذي ظلت بطانته تسعى عنده في عدوهم ابن الخطيب. وبلغه أَنه حرّض السلطان المريني على غزو ما تبقى بيد المسلمين بأَرض الأندلس في ملك بني الأحمر، فعظم عليه ذلك التحريض وفكر في تدبير الحيلة والحجة لقتله.

من أجل ذلك زعم حينها أعداء ابن الخطيب من بطانة ابن الأحمر أنه جاء في أحد مؤلفاته بما يشير إلى إبطانه للكفر. وكل مؤلفاته هي اليوم بين أيدينا وما خرج من بيننا من وجد فيها شيء من ذلك. لكنهم رفعوا بذلك دعوى إلى قاضي غرناطة فوافقهم واتهمه بالزندقة، فبعث ابن الأحمر بذلك الحكم إلى سلطان المغرب مع هديّة قلّ نظيرها، وطالبه بإقامة الحد على وزيره الهارب أو تسليمه كي تنفذ فيه العقوبة التي استحقها. لكن السلطان عبد العزيز رفض كل ذلك وفاء لابن الخطيب بحق الجوار، بل زاد وبالغ في إكرامه. إلا أن هذا السلطان الوفي والكريم سرعان ما وافته المنية، فولى الوزير ابن غازي الأمر مكانه لابنه الصغير محمد، وعمره حينها فقط أربع سنوات، كي يستبد به. فعاود ابن الأحمر طلبه مع هدية ثمينة لهذا الوزير، إلا أنه رفض هو بدوره تسليم ابن الخطيب وأبقاه على ما كان عليه من كرم الضيافة ومن التمتع بحق الجوار.

لكن ابن الأحمر لم يَعدم من سلاح ضد هذا الوزير المستبد الذي يتحداه. ومثل أبيه كان يحتفظ بجملة من أمراء بني مرين في مملكته كي يستعملهم عند الحاجة ضد كل من خالفه وعارض مصالحه من حكام المغرب، وكان من بينهم الأمير أبو العباس محمد الذي أطمعه في ملك أجداده بدلا من الطفل المستبَد به، فأركبه البحر وقذف به إلى أحد سواحل الريف للتشغيب على الوزير الذي تحداه. وكان على سبتة ابن عم الوزير نفسه فأغراه بأن يبايع أبا العباس ومده بالمال والسلاح والرجال حتى يتم أمره. واشترط على الأمير أن يسلّمه مقابل ذلك جبل طارق مع من فيه من أمراء وقرابة بني مرين، ثم يسلمه ابن الخطيب متى قدر على ذلك.

ولما استولى الأمير أبو العباس على الْأَمر بفاس بادر فعلا بالتنازل لِابْنِ الْأَحْمَر عَن جبل طَارق كما وعده بذلك، وسلمه من كان فيه من أمراء وقرابة بني مرين، ومحا بذلك أثر حكم أسرته من وراء البحر، ثم قبض على ابن الخطيب وسجنه. وكان وزير ابن الأحمر حينها بغرناطة هو سليمان أحد تلاميذ ابن الخطيب سابقا. فبعثه سيده إلى المغرب وقدم على السلطان الجديد أبي العباس الذي أحضر ابن الخطيب للمحاكمة بقصد تسليمه. وأجلس للنظر في قضيته مجلس الخاصة من أهل الشورى والفقهاء، فآخذوه بما جاء من كلمات في بعض كتبه. وقال الناصري في ذلك: “فَعظُم عَلَيْهِ النكير فِيهَا فوُبخ وَنكل وامتحن بِالْعَذَابِ بمشهد ذَلِك الْمَلأ. ثمَّ أخذ إِلَى محبسه. وتفاوضوا فِي قَتله بِمُقْتَضى تِلْكَ المقالات المسجلة عَلَيْهِ. فَأفْتى بعض الْفُقَهَاء بقتْله”.

وقد بعث إليه حينها سليمان، تلميذه السابق ووزير ابن الأحمر، بعض الأوغاد من حَاشِيَته كما يقول الناصري، فطرقوا السجْن لَيْلًا وَقتلوه خنقا وأخرجوا جثته ودفنوها بباب المحروق. وفي الغد أخرجوها من القبر ووضعوا عليها أعوادا وأضرموا فيها النار. فاحترق شعر القتيل واسودت بشرة وجهه، ثم أعيدت جثته إلى قبره. فماذا عن الدروس والعبر المستوحاة من مثل هذا الحدث المفجع؟

كُتب المؤرخين المسلمين مليئة بمثل هذه الأعمال الشنيعة، بل بأفظع منها في حق كثير من الحكام، بمن فيهم الملوك والسلاطين، ومن المحكومين. وبسبب النزعة التمجيدية التي لا تزال تطبع تاريخ المسلمين في برامج التعليم وبرامج الإعلام وجدت أنني كنت مشموتا في كتب مؤرخينا. وجدتهم، كما ينبغي، متوازنين في سرد أحداث ماضي أسلافنا. يسردون حلوَها ومرَّها كما هو الحال هنا مع نكبة ابن الخطيب. وجدتهم، كما يجب، موضوعيين لا يحابون في الغالب أحدا. وتاريخ بتوازنه ذاك غني بالدروس والعبر. بتوازنه يجعلنا نقدّر الحاضر حق قدره بالمقارنة مع أحوال أسلافنا في الماضي، حكاما ومحكومين، فلا نُشمت فيه.

ماض لا يخلو حقا من أمجاد نعتز ونفتخر بها. ماض عرف حضارة ثقافية وعلمية وعمرانية منقطعة النظير. لكن في ظل نظام حكم هشّ جدا، لا يأمن فيه الحاكم ولا المحكوم على حرماته كما هو الحال هنا مع الوزير الأديب ابن الخطيب. فما أغنت عنه عظمة قدره وجلال سلطانه بدولة بني الأحمر شيئا عن حفظ نفسه ودينه وعرضه وأمواله وحتى عقله. بل حتى حرمات السلاطين كانت في مهب الريح، فما بالنا بحرمات الجماهير الغفيرة من بسطاء ومتوسطي حال كل جيل من المحكومين؟ الأمن على الحرمات من الضروريات المقدّمة على كل مقومات الحضارة الثقافية والعلمية العمرانية. تلك من الحاجات والمحسنات.

ومن أهم الدروس التي يخلص إليها المتأمل اليوم في مثل أحداث نكبة ابن الخطيب أن دولة الحق والقانون، كما نعرفها اليوم ونعيش في كنفها بحمد الله، هي دولة الإسلام وفق مقاصد الشريعة الغراء من حفظ النفس والدين والعرض والمال والعقل. وذلك حتى في حال ما كان أهل البلد وحكامها غير مسلمين كما هو الحال اليوم في أغلب الدول العالم غير المسلمة حيث يعيش المسلمون بدون تمييز آمنين على كل حرماتهم بفضل قوة القانون وليس بمنّة من مزاج وأهواء أحد.

وبوُدّي لو عكف المسلمون على قراءة كتب تاريخ أسلافهم كما دونه المؤرخون المسلمون أنفسهم، فمن أجلهم قضوا زهرة حياتهم في تدوينها. صحيح أن قراءتها متعبة أحيانا ولا سيّما في البداية، لكن ما أن يتخطى القارئ تلك البدايات حتى يجد نفسه قد أصبح مُدمنا على نهم ما فيها من أخبار عجيبة وغريبة ومذهلة وبمتعة لا توصف مع ما فيها من دروس وعبر لا تقدر بثمن.

ومن أهمّ تلك الدروس مرة أخرى الوعي بنِعم الحاضر التي لا تُحصى مقارنة بالماضي، مع فرصة الاستمتاع بها حق الاستمتاع. وبفضلها ينتفي التذمّر الذي لا مبرر له، وينقطع دابر التطرف الذي يتغذى دوما من النزعة التمجيدية المفرطة والطاغية على سرد أحداث الماضي في برامج التعليم وبرامج الإعلام.

وأتمنى من نشر مثل هذه المقتطفات المختارة من كتب المؤرخين المسلمين أن تفتح الجماهير لقراءتها وللاستمتاع باكتشاف مضامينها المشوقة والمفيدة. وبالله التوفيق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى