أخبار العالم

عيون إسرائيلية تقتفي تحديات الحركة الهوياتية الأمازيغية لبلدان شمال إفريقيا


في سنة 2011، أصدر الباحث الإسرائيلي بروس مادي وايتزمان (Bruce Maddy-Weitzman) كتابا حول تحديات الحركة الهوياتية الأمازيغية لبلدان شمال إفريقيا (The Berber Identity Movement and the Challenge to North African States) من منشورات جامعة تكساس بالولايات المتحدة.

ويعتبر هذا الكتاب مرجعا مهما بالنسبة لكل الباحثين في التاريخ السياسي الراهن لشمال إفريقيا وفي الأنثروبولوجيا وسوسيولوجيا الحركات الهوياتية، فهو أول كتاب من نوعه باللغة الإنجليزية يقدم تحليلا شافيا عن تطور حركة الهوية الأمازيغية في شمال إفريقيا مع تركيز كبير على الجزائر والمغرب لاعتبارات عديدة: كون هذه الحركة تمتلك نفوذا أكبر في هذين البلدين قبل سنة 2010 مقارنة مع ليبيا وتونس، كما أن هذين البلدين يوجدان في وضعية تنافس سياسي واقتصادي بينهما لفرض هيمنتهما على المنطقة في مختلف المجالات، وبذلك فإن الحركة الأمازيغية بكلا البلدين لا تخرج عن هذه الدائرة من التنافس.

يعد مادي وايتزمان من الجيل المعاصر من الأكاديميين الإسرائيليين الذين تخصصوا في دراسة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. حصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة براندايز Brandeis ودرجة الماجستير في دراسات الشرق الأوسط من جامعة هارفارد ودرجة الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة تل أبيب. نشر العديد من الأوراق البحثية والمقالات حول مواضيع مختلفة تتعلق بشمال إفريقيا، بما في ذلك قضية الصحراء المغربية والعلاقات بين المغرب وإسرائيل والحركة الإسلامية المغربية.

قسم الكاتب أطروحته حول الحركة الأمازيغية إلى ثلاثة أقسام؛ يشمل القسم الأول مدخلا تاريخيا لتطور شمال إفريقيا من وجهة نظر سكانها الأصليين الذين تفاعلوا مع ثقافات مختلفة على مر العصور. يشرح القسم الثاني تأثير فترة الاستقلال وما تلاها على تشكيل هوية البلدين الفتية (المغرب والجزائر)، وكيف بدأت التوترات مع المجتمع الأمازيغي وظهور حركة هوياتية تسعى إلى المطالبة بحقوقها السياسية والاجتماعية والثقافية. يُؤكد القسم الثالث تطور الحركة الأمازيغية في الفترة المعاصرة حتى عام 2010 في ظل حكم الملك محمد السادس في المغرب وعبد العزيز بوتفليقة في الجزائر.

فيما يتعلق بالجزائر ما بعد الاستقلال، أشار الباحث إلى التوترات القائمة بعد استيلاء جبهة التحرير الوطني (FLN) على السلطة وإعلان نفسها منتصرة على المستعمر وحاولت بذلك تأسيس الدولة الجزائرية الحديثة وفق منظورها الذي يشمل تحديد هوية وطنية موحدة لكل الجزائريين تنبني فقط على العروبة والإسلام؛ ولكن في الواقع لم تكن هذه الجبهة نفسها موحدة، إذ تتجاذبها ايديولوجيات متعددة بين اشتراكية وقومية وعدم الانحياز وأيضا الرغبة في قيادة العالم الثالث… نتج عنها تجاذبات بين القادة التاريخيين أدت أيضا إلى ظهور توترات بين السلطة والمجتمع الأمازيغي، حيث عبر جزء من النخبة الأمازيغية عن امتعاضهم ومعارضتهم لسياسات الجبهة التي انتموا إليها سابقا ضمن جبهة تيزي وزو، واتجهوا نحو تأسيس كيانات سياسية جديدة كما هو الأمر بالنسبة للحسين أيت حماد الذي أسس جبهة القوى الاشتراكية ونجح في حشد تمرد مسلح ضد هيمنة جبهة التحرير تم قمعه بقوة. وعلى الرغم من التوترات، فإن السلطة قد استمرت في اتباع سياساتها الهوياتية، من خلال تعزيز الهوية العربية والإيديولوجية الاشتراكية العربية الإسلامية وتعريب مختلف مناحي الحياة اليومية للجزائريين؛ وهي السياسة التي أدت الى انقسام ثقافي واجتماعي بين الجزائريين. وقد عبر القبايليون عن رفضهم لهذه السياسات، واتجهوا نحو دعم هويتهم الأمازيغية وتطويرها في تحد واضح للسلطة السياسية.

وقد أدى هذا الرفض القبايلي إلى تطور كبير لوعي الأمازيغ في المنطقة للدفاع عن هويتهم، فانخرطت النخبة البرجوازية القبايلية في هذا التوجه حيث قاموا بدعم تطوير الأغنية القبايلية وأسسوا فرقا لكرة القدم التي تعد مصدر فخر هوياتي لكل القبايليين، وساهم المهاجرون القبايليون (خصوصا في فرنسا) في هذه الدينامية لتمتين هوية بلدهم، واتجهوا إلى إنشاء الأكاديمية الأمازيغية (Académie Berbère) ومجموعة الدراسات الأمازيغية للمساهمة في تطوير الوعي بالتاريخ والثقافة الأمازيغيتين وتقديم الدعم الفكري والثقافي لمجتمع القبايل بالجزائر وكذلك المساهمة في تطوير هوية ثقافية أمازيغية حديثة. هذا التضاد بين الأمازيغ والسلطة الجزائرية وصل مداه في بداية الثمانينيات حين ضاقت السلطات ذرعا بأنشطة الفاعلين الأمازيغ التي وصلت إلى الجامعات من خلال محاضرات مولود معمري حول الثقافة واللغة والتاريخ الأمازيغي بجامعة تيزي وزو، فلجأت إلى القمع والمنع؛ مما ولد مواجهات مباشرة بين الحركة الأمازيغية والسلطات الجزائرية أدت إلى اندلاع ما يعرف باحتجاجات الربيع الأمازيغي في أبريل سنة 1980، التي تحولت إلى مواجهات دامية بين الطرفين.

وإذا كانت الحركة الأمازيغية قد حسمت أمرها في الجزائر منذ فترة طويلة فإن وضعيتها مختلفة تماما في الحالة المغربية، فالبلدان يوجدان في منافسة جيوسياسية واقتصادية منذ استقلالهما، وإن كانت اختياراتهما الهوياتية متقاربة فإن القضية الأمازيغية تقع أيضا في خانة المنافسة بينهما. فقد كان المغرب يراقب عن كثب أوضاع الحركة الأمازيغية بالجزائر ومسار التمردات الواقعة في منطقة القبايل، خصوصا أنها حظيت بدعم إعلامي كبير من القنوات التلفزيونية الفرنسية (بشكل خاص).

وفي السنوات الأخيرة من حكمه، لجأ الحسن الثاني إلى إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية في الفترة نفسها التي وقعت فيها الجزائر في التوترات السياسية التي أدخلتها إلى عشرية سوداء من العنف بين السلطة والإسلاميين. وكان الحسن الثاني حريصا على تسوية الملفات الحارقة فيما مضى من خلال تقاسم السلطة مع المعارضة السياسية؛ لكنه لم يعر أي اهتمام لمطالب الحركة الأمازيغية المغربية التي أصبحت أكثر تسيسا بفعل تأثيرات مثيلتها في الجزائر، وبدأ صوتها يتصاعد منذ بداية التسعينيات مطالبة بالاعتراف بحقوق اللغة والثقافة الأمازيغيتين. وقد كانت الفرصة مواتية بالنسبة لها لإصدار بلاغ تاريخي عرف بميثاق أكادير 1991 والذي تضمن مطالبة بإقرار الأمازيغية لغة وطنية إلى جانب اللغة العربية وإخراج معهد الدراسات والأبحاث الأمازيغية إلى حيز الوجود ليتولى تأطير مشاريع النهوض باللغة والثقافة الأمازيغيتين لإدماجهما في مختلف الأنشطة التعليمية والثقافية والإعلامية…

وقد كانت هذه المبادرة بداية لتطور الوعي السياسي لدى الحركة الهوياتية الأمازيغية في المغرب التي بادرت إلى إنشاء جمعيات جديدة وتأسيس منابر إعلامية ونشر كتابات بالأمازيغية وحول الأمازيغية بل أيضا تنظيم حركات احتجاجية قابلتها السلطات بالمنع والقمع وأحيانا بالاستجابة، إلا أنه في سنة 1994 إبان مظاهرة رفع فيها نشطاء أمازيغ لمطالبهم جهرا، فقامت السلطات باعتقال بعضهم ومعاقبتهم بالسجن قبل أن يتم التراجع عن ذلك ويتم تخفيف الأحكام ثم يتدخل الملك ليعلن رمزيا الاعتراف بالهوية الأمازيغية كوسيلة لحماية أصالة المغرب ومقاومة الهيمنة الغربية واعتبر أن تعليم اللهجات الأمازيغية يعد وسيلة لمواجهة تأثيرات اللغات الأجنبية. ولكن بالرغم من ذلك لم يتم تنفيذ أية تدابير لمعالجة مطالب الحركة الثقافية الأمازيغية بشكل كامل خلال فترة حكمه، وهكذا استمرت التوترات بين حملة التعريب وتطلعات الحركة الأمازيغية المغربية.


لجأ الأمازيغ في كلا البلدين إلى تأسيس خطاب أمازيغي جديد يرتكز على حقوق الإنسان الثقافية والاقتصادية والاجتماعية؛ مما منحهم الفرصة للمشاركة في المنتديات والملتقيات الدولية، وبالتالي السعي نحو تدويل القضية الأمازيغية في شمال إفريقيا.

وقد اندفع نشطاء من شمال إفريقيا وفرنسا وإسبانيا إلى تأسيس حركة أمازيغية دولية تنسق بين النشطاء والتنظيمات الأمازيغية، وتم تحديد تصور واضح لبلاد الأمازيغ (تمازغا) التي تمتد من جزر الكناري إلى واحة سيوا في مصر، ومن بوركينا فاسو إلى الضفة الجنوبية للبحر المتوسط. واستطاعوا تنظيم المؤتمر الأول للحركة الأمازيغية الدولية تحت مسمى الكونغريس العالمي الأمازيغي بتافيرا في جزر الكناري بحضور ممثلين من بلدان شمال إفريقيا وبلدان المهجر؛ لكن التنظيم الدولي واجه تحديات، بسبب النزاعات بين الأنصار، وتدخل الحكومات الشمال إفريقية لتقييد نفوذه.

ومع ذلك استطاع تحريك مياه الحركة الأمازيغية الراكدة من خلال جلب التعاطف الدولي ورفع التحديات تجاه بلدان شمال إفريقيا، حيث كان له دور في تسليط الضوء على الوضعية الأمازيغية في ليبيا. فعلى الرغم من رفض القذافي في البداية لأي وجود لهوية أمازيغية في بلده، فقد تراجع عن مواقفه بعد ضغوط دولية وأجرى محادثات مع رئيس الكونغرس العالمي الأمازيغي، ثم سمح لوفود من هذا التنظيم بزيارة المناطق الناطقة بالأمازيغية في ليبيا واللقاء المباشر مع السكان؛ لكن ومع ذلك فإن وعود القذافي لم تتحقق على أرض الواقع، بل استمرت حملات الاعتقال والقمع ضد النشطاء الأمازيغيين في ليبيا.

وفي ظل هذا التدويل للقضايا الأمازيغية، تعرضت الحركة الأمازيغية لحملة تشهيرية من طرف مناوئيها في شأن علاقتها بإسرائيل والحركة الصهيونية والإمبريالية. ويرجح أن هذه الاتهامات نابعة من رفض الحركة الأمازيغية للرواية العربية الإسلامية الرسمية لتعريف الهوية، إلى جانب انفتاح كوادرها على الأفكار الغربية واعتبارها محايدة تجاه الشرق الأوسط. ولكن في الواقع، فإن العديد من النشطاء الأمازيغ لا يخفون تعاطفهم مع إسرائيل ومع الإسرائيليين من أصول أمازيغية، والبعض منهم يعبر عن حسرته من ضياع اللغة الأمازيغية في صفوف الإسرائيليين القادمين من شمال إفريقيا. كما أن بعض النشطاء الأمازيغ اتخذوا مبادرة جريئة لتأسيس جمعيات للصداقة الأمازيغية اليهودية ينظر إليها من قبل المناوئين كتعبير عن تعاطف الأمازيغ مع اليهود وإسرائيل واتهامهم بالمشاركة في تقسيم أراضي المسلمين.

ومن جانب آخر، أثارت حرب إسرائيل في قطاع غزة سنة 2009 تجاذباً متبايناً بين مؤيدي ومعارضي الحركة الأمازيغية في المغرب بشأن التضامن مع فلسطين أو مع إسرائيل. وبالإضافة إلى ذلك، قام وفد من المدرسين والنشطاء الأمازيغ بزيارة إلى إسرائيل سنة 2009 للمشاركة في ندوة تثقيفية في متحف ياد فاشيم التذكاري للهولوكوست، مما أثار نزاعًا مع المعارضين بسبب تأكيد البعض منهم لتعاطفهم مع إسرائيل ورفضهم للتيارات القومية العربية الإسلامية داخل المجتمع المغربي.

في القسم الأخير من هذا الكتاب، تحدث مادي وايتزمان بإسهاب عن وضعية الحركة الأمازيغية في فترة حكم كل من الملك محمد السادس للمغرب والرئيس عبد العزيز بوتفليقة للجزائر، وقدم لنا مقارنات حول تعامل كل منهما مع مطالب هذه الحركة بين استجابات الملك محمد السادس ومحاولات التملص من طرف الرئيس الجزائري. ففي المغرب، قام الملك محمد السادس بعد تسلمه الحكم بمصالحة تاريخية مع منطقة الريف التي وصلها في زيارة رسمية وتاريخية لتدشين مشاريع تنموية بها لمكافحة الفقر ومعالجة مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية. وقد أظهر الملك، خلال هذه الزيارة، جهودًا للمصالحة مع الأمازيغ والاعتراف الرمزي بإرث محمد بن عبد الكريم الخطابي، وتعهده بترميم الآثار التي خلفها.

فتح الملك محمد السادس العديد من الملفات الحقوقية التي أبدى رغبة في حلحلتها؛ فبمساندة من مدرسه السابق محمد شفيق الذي يعد ضمن التيار الأمازيغي المعتدل والذي أصدر بيانا يدعى بيان شفيق وقعه العديد من النشطاء الأمازيغ وقدم فيه تصورا جديدا وتحيينا لمطالب الحركة الأمازيغية، التقط الملك هذه الإشارة ليعلن من مدينة أجدير عن تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي سيضطلع بمهمة تطوير الأمازيغية وإعدادها لإدماجها في مناحي الحياة الاجتماعية ابتداء من تعليمها.

وفي هذا الصدد، برزت إلى السطح نزاعات بين الحركة الأمازيغية ومناوئيها من الحركة الإسلامية بشكل خاص حول الحرف الذي ستكتب به الأمازيغية؛ ففي حين رغب أغلب أطر الحركة الأمازيغية في تبني الحرف اللاتيني واتجه البعض منهم نحو مناصرة حرف تيفيناغ، فإن الحركة الإسلامية أبدت معارضتها الكبيرة مطالبة بتبني الحرف العربي وأن أي اختيار غير ذلك لا يعني سوى محاولة لتقويض الإسلام في المغرب مقابل تبني العلمانية. وقد كان دور الملك محمد السادس محوريا في هذه المعركة، حيث تدخل ليمارس دوره التحكيمي ويصدر قرارا بتدريس اللغة الأمازيغية بحرف تيفيناغ. وعلى الرغم من كل هذه المجهودات الملكية فإنه لا تزال هناك تحديات تواجه تعزيز الأمازيغية في التعليم والإعلام والحياة العامة؛ بل إن هناك تحديات تواجه المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية نفسه بشأن فعاليته في تدبير ملف الأمازيغية، حيث ينظر إليه بأنه مجرد وسيلة لاحتواء مطالب الحركة الأمازيغية؛ مما دفع البعض من أعضاء مجلسه الإداري إلى الاستقالة والتوجه نحو تسييس أكثر للحركة الأمازيغية.

في الجزائر، استطاع عبد العزيز بوتفليقة أن يخرج بلده من العشرية الدموية السوداء بفرضه لقانون الوئام المدني واتخذ لنفسه مسافة كبيرة عن المؤسسة العسكرية، حيث سارع إلى تنفيذ التقاعد على كبار العسكريين وترقية الموالين له من بينهم. وبذلك، استطاع توطيد سلطاته وضمان ثلاث ولايات رئاسية إلى غاية سنة 2010 (التي يغطيها الكتاب)؛ لكنه من جانب آخر لم ينجح في نزع فتيل التوتر المزمن مع القبايليين.. ففي سنة 2001، تجددت المواجهات بين القبايليين والسلطة في ذكرى الربيع الأمازيغي الذي تحول إلى الربيع الأسود بعد مقتل تلميذ في مخافر الدرك، لتشتعل المواجهات في مختلف مناطقها؛ مما أدى إلى الكثير من التمرد وظهور حركات سياسية مطالبة بالحكم الذاتي لمنطقة القبايل بزعامة فرحات مهني التي لم تنجح في بدايتها من كسب تعاطف كل القبايليين لتتوارى إلى غاية سنة 2010 التي أعلن فيها عن تأسيس حكومة القبايل في المنفى (فرنسا) ويعلن نفسه رئيسا لها.

قبل ذلك، سعى القبايليون إلى تأسيس تنسيقيات تعرف بتنسيقيات العروش لمواجهة تسلط رجال السلطة المركزية؛ مما أدى إلى رفع منسوب الغضب ودفع بالقبايليين إلى مقاطعة الانتخابات المحلية والإقليمية لسنة 2002. وعوض التفاوض، اتجه بوتفليقة إلى تبني سياسة المواجهة بتعيين أفراد من خارج المنطقة لتدبير البلديات والمقاطعات، كما قلص من الميزانيات المالية المخصصة لتنمية المنطقة بشكل بالغ أثر على الاقتصاد المحلي.

استمرت التجاذبات بين تنسيقيات العروش والسلطة المركزية. وفي ظل التخوف من تأثير الأحداث على الانتخابات الرئاسية المقبلة، لم يكن للسلطة بد سوى الجلوس على طاولة المفاوضات مستغلة الانقسامات الحادة في صفوف تنسيقيات العروش.. وهكذا، قدم بوتفليقة العديد من الإيماءات والإيحاءات للقبول ببعض مطالب التنسيقية والتي تشمل سحب عناصر الدرك الوطني من القبايل والاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية في الجزائر عن طريق تعديل دستوري؛ لكن استمرار الاعتقالات بعد ذلك أعاد الأمور إلى نقطة الصفر إلى غاية يناير 2005 الذي تم فيه الإعلان عن إنشاء آلية مشتركة بين السلطات وتنسيقية العروش لتنفيذ المطالب بما فيها الاستبدال التدريجي لقوات الدرك الوطني ثم حل المجالس البلدية والإقليمية في منطقة القبايل لإعادة انتخاب مجالس جديدة في نونبر 2005 والتي سيطرت عليها جبهة القوى الديمقراطية والتجمع من أجل الديمقراطية (وهما حزبان قبايليان) بأكثر من نصف المقاعد المخصصة. وفي المقابل، نهجت الدولة سياسة أسلمة المنطقة بشكل مبالغ فيه تجلت في بناء العديد من المساجد في المنطقة وتوجيه خطب دينية مؤطرة من طرف السلطات وأيضا توزيع مصاحف مترجمة إلى الأمازيغية. كما أن القبايل أصبحت مجددا مسرحا للحركات الإسلامية المتطرفة والمسلحة؛ وهي الأمور التي عمقت شكوك الفاعلين الأمازيغ حول مدى تورط النظام الذي يرغب في إعادة الدرك الوطني إلى المنطقة.

  • باحث في معهد دراسات معاداة السامية والسياسات ISGAP (نيويورك) وفاعل سياسي أمازيغي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى