عاشوراء: لماذا تُلهم كربلاء الرسامين حتى يومنا هذا؟
- سناء الخوري
- مراسلة الشؤون الدينية – بي بي سي نيوز عربي
ما الذي يمكن أن يجمع هندياً يعيش في كاليفورنيا، بلبناني من الجنوب؟ يحبان فريق كرة القدم نفسه؟ ربما. يتشاركان بمشاهدة المسلسلات ذاتها على نتفليكس؟ احتمال أيضاً.
لا يعرف نبي حيدر علي من الهند، وعلي نجدي من لبنان، بعضهما البعض. ولكن، حين سألتُ الاثنين عن فنان تأثرا بأعماله، حدّثاني عن الرسام الإيراني محمود فرشجيان.
نبي وعلي رسامان في العشرينات من العمر، ينشران أعمالهما على إنستغرام، وكلاهما مسلم شيعي يوظّف الرسم للتعبير عن إيمانه وإحياء ذكرى عاشوراء كل سنة.
ومحمود فرشجيان فنان إيراني ذائع الصيت، في التسعين من عمره، ويعدّ من أبرز من رسموا واقعة الطفّ الشهيرة، وكان لأعماله تأثير كبير في إيران وخارجها، وامتدّ ذلك إلى أجيال من التشكيليين الأصغر سناً.
يخبرنا علي نجدي المولود في عائلة شيعية لبنانية، أنه بدأ تقليد رسوم فرشجيان حين كان في الثامنة من عمره، وتحديداً لوحة “عصر عاشوراء” (1976).
تمثّل اللوحة حزن نساء عائلة الإمام الحسين بن علي، وتحلقهن حول جواده العائد دون فارس بعد المعركة التي جرت في كربلاء، للدلالة على مقتله.
تستقي اللوحة موضوعها من الواقعة التي شهدتها مدينة كربلاء عام 680، عند مقتل الحسين حفيد النبي محمد بعد معركة غير متكافئة مع جيش يزيد بن معاوية.
شكلت معركة كربلاء منعطفاً في التاريخ الإسلامي، وألهمت أعمالاً أدبية وفنية على مرّ قرون، إذ تحمل كافة عناصر الملحمة الشعبيّة، وتتكثّف فيها مآثر البطولة، من نسب شخصية البطل، إلى مواجهته الظلم وحيداً، إلى تسلسل الأحداث الدرامي، وانفضاض الناس عن نصرة الحسين وأهله.
تقاليد رسم الإمام علي بن أبي طالب، والحسين، وعائلتهما، ليست بجديدة، إذ يعيدها بعض المؤرخين إلى القرن الثالث عشر، وتعدّ مصدر إلهام فني منذ زمن للمدارس التشكيلية على اختلافها.
ومع تعرّض الشيعة للاضطهاد السياسي في حقب مختلفة على مرّ التاريخ، كانت تلك الصور وسيلة للتعبير عن هويتهم، ولتحدي القمع.
وبعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، وتعاظم الحضور السياسي للأحزاب السياسية الشيعية في دول مثل العراق ولبنان، زاد حضور الرايات الحسينية والجدارياتوالبصريات المصبوغة بطابع عاشورائي ملحمي في الفضاء العام.
خلال السنوات القليلة الماضية، تحوّل إنستغرام إلى معرض “كربلائي”، إن جاز التعبير، مع اختيار بعض الرسامين الشباب لهذه المنصة، كوسيلة لنشر أعمالهم.
من أبرز هؤلاء التشكيلي الإيراني حسن روح الأمين (1985)، الذي تعرض أعماله في الجادات العامة في إيران، وفي معارض عالمية، وبات لرسوماته دور في تشكيل المزاج البصري لجمهور عريض، يبني رابطاً عاطفياً وثيقاً بذكرى عاشوراء.
حاولنا في بي بي سي نيوز عربي الحديث مع روح الأمين، لكنه قال إنه لا يعطي تصريحات لوسيلتنا الإعلامية.
“ما رأيت إلا جميلاً”
نبي حيدر علي من الفنانين الذي يمتدّ تأثيرهم على نطاق واسع أيضاً، وله متابعون من مختلف الجنسيات على إنستغرام، وقد استهدينا إلى حسابه من خلال نصيحة شابة لبنانية تأثرت بتمثيله للأئمة المعصومين.
ولد نبي حيدر علي في الهند لعائلة تاميل هندوسية، وكبر في الولايات المتحدة. يخبرنا أنه خلال طفولته، كان على تماس مع الصور النمطية السلبية للإسلام سواء في الإعلام، أو في كنف العائلة التي لم تتقبل إسلامه بعد.
وجد الشاب طريقه إلى الإسلام في البداية، من خلال اهتمامه بالتقاليد الصوفية الآسيوية، وأحبّ المذهب الشيعي لأنه، كما يخبرنا، “يجد فيه جذوراً صوفية من خلال مفهوم الولاية، حيث هناك بنية تراتبية للمعرفة وتسلسل في طلبها”.
لا يعرف نبي الكثير من المسلمين الشيعة في الولايات المتحدة، لذلك فإن صلته بأبناء مذهبه تمت عبر مواقع التواصل. اختار أن يكني نفسه باسم “نبي” لأنه من الأسماء الشائعة بين المسلمين في إيران وجنوب آسيا.
يقول لـبي بي سي نيوز عربي في حديث عبر زووم إنه يذهب إلى المسجد ويعود إلى المنزل، ولا يمارس الكثير من الشعائر الجماعية المعروفة في شهر محرّم لدى شيعة لبنان والعراق وغيرهم.
لكنه يقول إن “تسجيلات اللطميات والمجالس الحسينية الآتية من العراق، كانت من الأمور التي أثارت فضولي لكي أبحث أكثر عن المذهب الشيعي، وأرغب لاحقاً باعتناقه. بدأت أرسم الأئمة المعصومين تأثراً بالملصقات التي ترفع في شهر محرم”.
يقول إنه يعمد إلى إظهار طابع جمالي في أعماله، تمثلاً بقول زينب أخت الحسين بعد واقعة كربلاء: “ما رأيت إلا جميلاً”.
لم تكن مشاهدعاشوراء مصدر إلهام فني لنبي وحسب، بل كذلك طريقته ليعمق فهمه لتاريخ الشيعة وتقاليدهم.
في سلسلة رسوم للأئمة المعصومين، يختار الرسام أن يحجب وجوههم بإطار مزخرف، ويطبع فيه تشكيلات ترمز إلى محطات من سيرة كل واحد منهم. “أجريت أبحاثاً مطولة للاتصال أكثر بتلك التقاليد، ولتصوير كل شخصية بطريقة لائقة. ولأني في الأساس أعاني من قصور في الانتباه، أحتاج دوماً لأشغل يديّ بشيء ما، أجد في الرسم نوعاً من الذكر”.
تظهر في رسوم نبي بشكل واضح تأثيرات الثقافة الهندية مطبوعة في التصاوير العاشورائية، كأنه تلاقح بين عالمين. يستخدم بعض تقنيات الفن المنغولي، ويختار ألواناً فاقعة مثل الأصفر الذهبي والأزرق، ويصور الملابس منسدلة واسعة.
يحجب نبي وجوه الأئمة في بعض الأعمال، ويظهرها في أخرى. يقول إنه يعرف أن “رسمهم ليس محرّماً بحسب الفقهاء الشيعة”، ولكن بعض المعلقين على أعماله قالوا له “إنهم لا يرتاحون لرؤية الوجوه مرسومة”.
هل هذا الرسم محرّم شرعاً؟
تثير رسوم وجه الأئمة عند الشيعة خلافاً شرعياً، على اعتبار أن المذهب الشيعي أقل تشدداً في إباحة الرسوم من المذهب السني، لكن المعضلة الأكبر تتمثّل في السؤال عن دقة ملامح الشخصيات.
يعتقد أن الفنانين المجهولين الذي بادروا قبل قرون إلى رسم تصاوير الإمام علي بن أبي طالب، استندوا في تشبيه الملامح إلى دراسة السير والتاريخ وما ورد عن الرواة، وكانت كلّ رسمة تتأثر بتمكّن الرسام وخلفياته الثقافية.
نجد في رسوم الإمام علي عناصر ثابتة، مثل العينين الواسعتين والنظرة الثاقبة، العمامة الخضراء، اللحية والبشرة السمراء، إلى جانب سيفه ذو الفقار، وجواده، والأسد الساجد بالقرب منه.
على موقع آية الله علي السيستاني، ورداً على سؤال، يجيز المرجع تعليق تصاوير الأئمة المعصومين، “لكن الاعتقاد بمطابقتها لهم اعتقاد خاطئ يقيناً”.
ويقول العلامة علي فضل الله، رئيس مؤسسات المرجع محمد حسين فضل الله في لبنان، لـبي بي سي نيوز عربي، إن المذهب الشيعي لا يحرّم التصوير، لكن “ينبغي مراعاة طريقة التصوير ونوعيتها بشكل لا يمس من احترام الشخصيات”.
ويلفت فضل الله إلى أن النور حول وجه الإمام في بعض الصور، لا يعني أن رسم الوجه حرام وفق رأي شرعي، ولكنه اجتهاد شخصي من الفنان كي “لا يتحمل مسؤولية أو لا يخطئ في تحديد الملامح”.
العبرة من تلك الرسوم ليست في استحضار دقة الملامح إذاً، بقدر ما هي محاولة للتبرّك، أو التكريم، أو التمثّل بشخصيات لها قيمة معنوية كبرى، والإبقاء على ذكراها حيّة الأمر الذي يعني الكثير للشيعة.
ذئاب ونور
يقول الرسام اللبناني علي نجدي إن رسم الوجوه والملامح من أصعب تقنيات الحرفة، لذلك كان تقليده في سن صغيرة لتصاوير الأئمة ومحاولته الحثيثة لرسم وجوههم، بوابة لإتقانه فن الرسم، عبر محاولة نسخ التشابيه الشائعة في متاجر دينية في بيروت وضواحيها.
بخلاف نبي حيدر علي الذي دخل عالم التقاليد العاشورائية عن خيار شخصي قبل سنوات، عاش علي نجدي طفولته وشبابه متشبعاً بتلك التقاليد، إذ كان يرافق والدته إلى مجالس العزاء، يراقب الطقوس، يسمع التلاوات، وينتظر توزيع الهريسة، وهي طبق من القمح المسلوق يقدم في مجالس العزاء في لبنان.
يكتب علي نجدي رداً على أسئلة بي بي سي نيوز عربي: “تأثرت كثيراً بحالة الوحدة والمظلومية التي أصابت الحسين في واقعة الطف، والصور التشابيه المنتشرة دعّمت فهمي لشخصيته كإنسان رحيم، صلب ومظلوم في الوقت عينه”.
يضيف: “ليس هناك من معلومات أو تفاصيل عن هذه التشابيه، فالبعض يقول بانها مبنية على أساس صفات الامام المذكورة في كتب التاريخ، والبعض كان يقول إن هناك رساماً قد رأى وجه الامام في منامه ورسمه فيما بعد”.
كشريحة واسعة من أبناء الطائفة الشيعية في لبنان، يعتقد علي بأن عاشوراء ألهمت أهل الجنوب اللبناني خلال حقبة الاحتلال الإسرائيلي على “القيام بوجه طاغية، والدفاع عن الأرض”.
ما أصل تلك التصاوير؟
تختلط التأثيرات الروحانية، والسياسية، والدينية، والثقافية في مقاربة الرسامين لشخصيات الأئمة وعاشوراء، خصوصاً أننا أمام واقعة لم يبهت تأثيرها رغم مرور قرون.
ويشبه التشكيلي والشاعر العراقي شاكر لعيبي، تصاوير الإمام علي التي تجد رواجاً في الخيال الشعبي الإسلامي، بطوائفه كافة، برواج رسومات لشخصيات بطولية أخرى مثل عنترة بن شداد، وأعلام ملاحم بني هلال.
في كتابه “تصاوير الإمام علي: مراجعها ودلالاتها التشكيلية” (دار الريس – 2011)، يكتب لعيبي أنّ “رسم الإمام علي موجود على طول العالم العربي وعرضه، في الفن الفطري التونسي على الزجاج، وفي الفن الفطري السوري تحديداً أعمال أبو صبحي التيناوي، وفي مثيله المصري، وفي المغرب، ولدى شيعة العراق، وفي مناطق من الخليج العربي، إلى جانب إيران وتركيا وأفغانستان وباكستان والهند”.
ويرجع لعيبي سبب انتشار تلك الرسوم إلى الرغبة الشعبية الفطرية العاطفية بالاحتفال ببطولة الشخصية وشجاعتها وورعها، إذ نجده دوماً حاملاً سيفه، أو ممتطياً صهوة جواده، أو يظهر بجانبه أسد.
وبحسب الكاتب فإن تصاوير الإمام علي تحمل تأثيرات من تقاليد الرسم الإسلامي بألوانه البهيجة ومساحاته المسطحة، والمنمنمات، وصولاً إلى تقاليد رسم الأيقونة المسيحية.
ويعيد الكاتب أول ذكر لتصاوير الإمام علي إلى سنة 1246، حين وردت إشارة إليها في نص لأحد علماء المعتزلة ابن أبي الحديد، إذ يقول إن المقاتلين كانوا يرسمون الإمام علي على مقابض سيوفهم للتبرك بها، ويعتقد أنها ظهرت لدى الشعوب المسلمة غير العربية، “التي لم تكن تجد ضيراً من استخدام الصورة لأغراض دينية”.
ولكن كيف وصلنا من مقابض السيوف، إلى البورتريهات الشائعة اليوم؟ يستند شاكر لعيبي إلى أستاذ تاريخ الفن الإيراني يعقوب آجند للإشارة إلى أن التصاوير بشكلها الحالي تمت بصلة إلى الفترة الصفوية في إيران (1501 – 1736)، لكنها أخذت شكلها النهائي خلال الدولة القاجارية (1779 – 1925). وقد “بات وجه الرسول والمعصومين يخفى أو يغطى بحجاب عندما أصبح التشيع المذهب الرسمي لإيران، وامتد ذلك للبلاد المجاورة إلى يومنا هذا”.
يحدثنا نبي حيدر علي بحماسة عن ذلك الخيط من التأثيرات المتواصلة بين الشعوب، في تصاوير الأئمة ورسوم عاشوراء.
يقول إن الأمر أشبه بحلقة من التأثير والتأثر المتواصلين، فكما كان جنوب آسيا مصدراً لرواج تصاوير الأئمة في شكلها الأول، ها هو اليوم، فنان هندي شيعي في الولايات المتحدة، يستلهم من التقاليد العربية في أعماله، ويطبعها بثقافته الهندية الأصلية.