هكذا يفاقم التدهور الاقتصادي والاجتماعي أعمال العنف في الجمهورية الفرنسية
ربطت دراسة حديثة بين تدهور الحالة الاقتصادية والاجتماعية وأزمة تزايد العنف في المجتمع الفرنسي، قائلة إنّ “التساؤلات مازالت تدور حول العلاقة التي تربط بين اندلاع أعمال العنف والجوع ومدى تأثير الأزمة الأوكرانيّة على الوضع الداخلي الحالي في فرنسا، لا سيما أن استهلاك المواد الغذائية في فرنسا شهد انخفاضاً غير مسبوق بنسبة 20% بسبب ارتفاع أسعارها بعد اندلاع الحرب”.
ومن ضمن أسباب هذا التدهور التي تقدمها الدراسة ذاتها، الموسومة بـ”نزع الحضارة: لماذا تزايد العنف في المجتمع الفرنسي؟”، “اعتماد السوق الفرنسية على الأسمدة الكيمياوية التي تأتي من روسيا وبيلاروسيا، وعندما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا تراجع وصول هذه الأسمدة”، مفسرة بأن هذا الأمر “أدى إلى نشوب أزمة غذائية لم يفكر أحد في عواقبها على المدى الطويل؛ لأنّ الحرب أثارت عاطفة جماعية لدعم أوكرانيا، ولأنّ المزارعين كانوا دائماً يشكّلون فئة مُهملة داخل المجتمع الفرنسي”.
ونبهت الدراسة، الصادرة عن “إنترريجيونال للتحليلات السياسية”، إلى أن “مثيري الشغب لم يذكروا نقص الغذاء كسبب رئيسي لغضبهم بعد مقتل المراهق نائل على يد الشّرطة، ولكن العديد من المقالات والصور توقفت عند مشهد طوابير الطلاب المستجدّ أمام بنوك الطعام التي توزع الوجبات الغذائية بالمجان”، مبرزة أنّ “ما يفسر هذا أكثر هو أعمال نهب محلات السوبر ماركت والسرقة التي شهدتها الأحداث الأخيرة”.
ولا تكتفي الدّراسة بهذا المحفّز وحده، بل ترصد إلى جانبه ما أسمته “تأزم نموذج الاندماج الفرنسي”، بحيث اعتبرت أن “العنف الحضريّ شكل من أشكال التعبير السياسي والمقاومة من أسفل الهرم، لإيصال مطالب مكتومة لا تستمع إليها السلطة وتنتهي إلى جرّ مطلقيها نحو العنف”، موضحة أنّ “هذا الانفجار سبقته محاولات للفت نظر الرئيس الفرنسي ماكرون إلى ضرورة إنعاش نموذج الاندماج الفرنسي (Modéle d’intégtation) قبل فوات الأوان”.
وفيما يخصّ الأسباب الأخرى، فقد لخّصتها الورقة في “معضلة تجانس طبقة المهمشين”، و”اختفاء الانقسام بين اليمين واليسار”. لكن، ماذا عن مؤشرات هذا العنف بفرنسا كما رصدتها الدراسة ذاتها؟ تتجسّد الإجابة في أول مؤشر وصفته الورقة بـ”تزايد أعداد ومثيري الشغب من فئة القاصرين”، مبرزة أنّ “وزارة الداخلية الفرنسية كشفت أن نحو 30 في المائة من المعتقلين في أحداث الشغب التي تلت وفاة الطفل نائل، هم من المراهقين، بين 12 و17 سنة”.
واعتبرت الدراسة أيضا أن من مظاهر تنامي العنف في المجتمع الفرنسي، “إدخال مصطلحات جديدة في الخطاب السياسي الفرنسي”، ضاربة المثل بمصطلح “نزع الحضارة” (Décivilisation) الذي أوحى به مدير مؤسسة “IFOP”، جيروم فوركي، إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على هامش لقاء في قصر الإليزيه، إذ حاول فوركي لفت نظر ماكرون إلى أنّ ما يحدث في فرنسا من عنف يومي لا ينضوي تحت خانة “المتفرقات”، بل هو مرتبط بعملية تفكك كبيرة تصيب جميع شرائج المجتمع الفرنسي.
عملية التفكك هذه قالت الدراسة إن فوركي وصفها بعملية “نزع الحضارة”، وهو المصطلح الذي نال إعجاب الرئيس الفرنسي، الذي استعاره خلال اجتماع لمجلس الوزراء في اليوم الموالي مباشرة للقاء مع مدير مؤسسة “IFOP”. وعدّدت الورقة بقيّة المؤشّرات، وهي “التّوسع الجغرافيّ لدائرة العنف”، و”مهاجمة مسؤولين مدنيين”، و”تبادل الاتهامات باشتداد العنف المجتمعي”، و”تزايد عنف الشرطة”، و”تصاعد جدل التعسف في إعمال القوانين”.
ولكن الخلاصة المثيرة التي تقدمها الدراسة، هي أنّ “الأحداث الأخيرة في فرنسا تكشف عن قطيعة بين شريحة من الشّعب الفرنسي وقواه الحاكمة؛ فالمرحلة التي كان يتم فيها بناء الهيمنة وفق أسس الديمقراطيـة وبرضى المحكومين، يبدو أنها قد انتهت، وتم الانتقال إلى مرحلة جديدة يتم فيها فرض الطاعة من قبل السلطة بأساليب قسرية”، مشددة على أن الخروج من بوتقة العنف هذه يستوجب التفكير في كيفية تطبيق الشّعار “لا سلام من دون عدالة” الذي تم رفعه خلال المظاهرات.