مصر والسعودية: بريطانيا أوصت بمواصلة المملكة ودول الخليج دعم نظام السادات اقتصاديا خدمة لمصالحهم الاستراتيجية ــ وثائق بريطانية
- عــامـــر سـلطـــان
- بي بي سي نيوز
في مثل هذه الأيام قبل 48 عاما ساور بريطانيا قلق بالغ على مصير نظام حكم محمد أنور السادات في مصر، التي كانت تعاني أسوأ أزمة اقتصادية.
ورغم العلاقات القوية بين السادات والبريطانيين والرهان الغربي عليه في فتح الطريق لتسوية تفضي لقبول إسرائيل في المنطقة، حملت بريطانيا دول الخليج، خاصة السعودية، مسؤولية إنقاذ مصر، حسبما تكشف وثائق بريطانية.
وتكشف الوثائق، التي اطلعت عليها بمقتضى قانون حرية المعلومات، أن جيمس كالاهان، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، طلب إجراء مراجعة شاملة للوضع في مصر عام 1975.
ماذا كان وضع مصر الاقتصادي؟
في تقييمه، للحال في مصر، رسم سير ريتشار بيمونت، سفير بريطانيا في القاهرة، صورة كئيبة.
إلا أن كل التقارير البريطانية أكدت أنه بحلول عام 1975، دخلت أزمة خانقة
وفي تقرير إلى لندن، أبلغ سير بيمونت حكومته بأن كل هذا يعني أن مصر في حاجة ماسة إلى دعم اقتصادي كبير “كي يمكن لنظام السادات تخفيف آثار المشكلات الاقتصادية الصعبة والاستياء الشعبي الذي لم يصل بعد إلى حد الخطر الداهم على بقاء النظام”.
لم يستند السفير، في تقريره المفصل، على المتابعة اليومية لما يحدث في مصر فقط، بل تحدث مع سياسيين مصريين نافذين. وقال إن حدة الأزمة الاقتصادية جعلتهم يخلصون إلى أن موقف بلادهم من الصراع العربي الإسرائيلي “ضيعها”.
وقال” لقد صُدمت كثيرا بالصراحة والحدة اللتين يتحدث بهما وزراء ومسؤولون عن فكرة ‘عشرين عاما ضائعة'”، في إشارة إلى الحروب التي خاضتها مصر.
وحسب السفير، فإن محمد محمود رياض وزير الخارجية المصري قال له في أول لقاء بينهما: “واجباتنا هي أن نكمل تحرير أرضنا المحتلة ونبني اقتصادنا، وهذا هو ما يمكننا فعله”.
في السياق نفسه، قال السفير إن عسكريا سابقا آخر هو سعد عرفه، نائب مساعد وزير فيوزارة الشئون الخارجية قال له : “الله يحمي الكعبة، وعلينا أن ننظر إلى إبلنا”.
كيف يمكن، إذن، إنقاذ نظام السادات؟
رغم تنبيه السفير وإدارة الشرق الأدني وشمال أفريقيا في الخارجية البريطانية إلى خطورة الوضع في مصر، وتأكيد الحرص على بقاء نظام السادات، لم يكن لدى بريطانيا استعداد لدفع أي ثمن أو تحمل أي عبء مالي لمساعدته.
فقال السفير: “وضعنا المالي يجعل من المستحيل أن نقدم أي إسهام جوهري، ولا الضغط على آخرين كي يفعلوا ذلك. وشركاؤنا الأوروبيون لديهم موانعهم الخاصة بهم”.
لم ير البريطانيون سبيلا لمساعدة نظام السادات سوى تدخل دول الخليج بقيادة السعودية. ونصح السفير بأن تلك الدول أقدر وأحق بإنقاذ مصر من براثن أزمتها.
لكن تقارير البريطانيين، التي تستند على معلومات من مصادر مختلفة، أثارت حينها القلق، لأن السعوديين “لم يعودوا متحمسين لإسناد مصر” بعد أقل من عامين تقريبا من حرب 1973.
وأبلغ سير بيمونت حكومته بأن “حماس” السعوديين للاستثمار في مصر “يفتر”، وأن هذا لن يتغير “حتى ترتب الحكومة المصرية بيتها المالي والاقتصادي”.
ومضى السفير يقول “بل إنني حتى سمعت أن السعوديين يقولون إن السودان دولة واعدة بقدر أكبر للاستثمار فيها”.
وأكد “سأم السعوديين” من مشكلات مصر المزمنة المتعلقة بالميزانية وميزان المدفوعات، وأرجعه إلى “شعورهم بأنه لا جديد بشأن مستويات الأزمة الحالية”، في إشارة إلى أن النظام في مصر لا يتخذ التدابير الصحيحة اللازمة لمواجهة الأزمة.
وأضاف السفير سببا آخر لموقف السعودية وهو “الشك في أن نظام السادات ربما يبالغ في تضخيم أزمة مصر الاقتصادية لاستدرار المزيد من الدعم”، مشيرا إلى “عدم الثقة على الإطلاق” في الإحصاءات المصرية.
وعرض السفير، في تقريره، أن “يُفهِم البريطانيون السعوديين، وغيرهم (من دول الخليج النفطية)، أن مصر تتمتع بإمكانات هائلة للغاية للتنمية الاقتصادية لو استغلت مواردها البشرية التي أهملت في الماضي بسبب نقص التمويل”.
وعبر عن اعتقاده بأن السعوديين والخليجيين عموما “قصار النظر للغاية إن طبقوا فقط المعايير الاقتصادية الضيقة على استثماراتهم في مصر. فبدون المعونة السخية، لن يكون المصريون قادرين على ترتيب بيتهم المالي والاقتصادي، كما أن المصلحة المحققة للسعوديين والدول الخليجية من وراء بقاء ونجاح الرئيس السادات هي تقريبا بنفس ضخامة مصلحة السادات نفسه”.
وأضاف “ينبغي علينا انتهاز أي فرصة تتيح لنا تشجيع السعوديين وغيرهم على ألا يتراخوا في دعمهم، خاصة إذا كان لا بد من عملية إنقاذ دولي ما”.
واقترح السفير المنحى الذي تسلكه على حكومته عند إثارة المسألة المصرية مع الخليجيين، وهو ضرورة نُصحهم بأنه لو كان الاستثمار في السودان، مثلا، سوف يحقق مكاسب مالية، فإن توجيه هذا الاستثمار إلى مصر سيكون عائده أكبر استراتيجيا.
وقال إنه “لأول مرة في التاريخ، تتوفر الموارد (الخليجية)، التي تحتاج إليها تنمية مصر الاقتصادية حاجة ماسة للغاية، ويوجد التقاء للمصلحة السياسية والاقتصادية تدعو بقوة لتوظيفها هنا”، في مصر.
ماذا يمكن أن تفعل بريطانيا وما هي مصلحتها؟
أبدى السفير تشاؤما بشأن خروج مصر من أزمتها بسبب سوء الإدارة.
وقال: “لا أرى أي مجال أمامنا لعمل أي شيء فعال للمساعدة في علاج نقص الإدارة الاقتصادية الماهرة الذي تعاني منه مصر معاناة هائلة”.
وكان هذا الملف أحد مشاغل البريطانيين الرئيسية في التعامل مع مصر في ظل أزمة نظام السادات. لذا نصح السفير بأنه “ينبغي علينا أن نواصل استعدادنا لتوريد الأسلحة إلى مصر”.
غير أن هذا يظل مشروطا، وفق النهج البريطاني بالسداد. فقال سير بيمونت “لا بد أن يكون (توريد السلاح) مرهونا بالدفع، وإن كان المراد أن يكون السادات قادرا على تأمين كميات من المعدات ذات التكلفة الهائلة التي يحتاجها للحفاظ على استقلاله عن الروس، فربما علينا مرة أخرى العمل بجد لتحفيز سخاء هؤلاء الذين يجب أن يسددوا الفواتير”.
وأشار إلى مصلحة أوروبا وبريطانيا، قائلا إنه ” بالنسبة للأسلحة، نريد جميعا أن نساعد السادات بطرق مربحة لنا”.
استمرت أزمة مصر الاقتصادية حتى تفجر الوضع بعد قرار الحكومة رفع أسعار بعض السلع الأساسية في يوم 17 يناير/تشرين الثاني عام 1977. حينها، أعلن الدكتور عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية أمام مجلس الشعب أن الخطوة ضرورية في إطار سياسة تقشفية لازمة للحصول على قرض من صندق النقد الدولي.
ودفعت الإجراءات الاقتصادية المصريين إلى الخروج إلى شوارع القاهرة ومدن أخرى في اليومين التاليين فيما عرف في تاريخ مصر الحديث باسم “انتفاضة الخبز” ووصمها أنصار النظام بأنها “انتفاضة حرامية”. واستدعي الجيش للسيطرة على الوضع. ثم تراجع السادات عن قرارات رفع الأسعار.
لم يكن الانزعاج من مأزق نظام السادات بريطانياً فقط.
ويكشف تقرير أعده بي جي توري، رئيس إدارة الشرق الأدني وشمال أفريقيا عن قلق أمريكي مما يحدث في مصر.
وحسب التقرير، الذي أعد في شهر أغسطس/آب عام 1977، فإن البريطانيين “رأوا عددا من تقارير الأمريكيين تشير إلى أن الرئيس السادات تحت ضغط نفسي وسياسي متزايد”، وأنه “يبدو في جلساته الخاصة متوترا ويعاني إجهادا”. ووصف ذلك التقرير الرئيس أيضا بأنه “رجل يعيش الآن قلقا بالغا”.
وفي تقرير من القاهرة في الشهرالتالي، قالت السفارة البريطانية إنه “رغم النجاح الفني للدكتور القيسوني في جمع أموال عربية لمصر، وفي الفوز بموافقة صندوق النقد، وربما أيضا النجاح في خلق أفق لبعض التحسن الحقيقي في الاقتصاد لو سمح الوقت لهذا، ليس هناك حتى الآن أي شيء يجلب أي ارتياح مباشر للجماهير المسحوقة”.
وجاء في التقرير “التضخم يستمر. وفي بعض الحالات تزيد الأسعار مباشرة نتيجة الإجراءات الاقتصادية المتخذة”.
ورسم التقرير ملامح الصورة على النحو التالي:
• بقت المشكلات القائمة منذ فترة طويلة، مثل نقص المساكن وعدم كفاية الخدمات العامة أو الافتقاد إليها كليا، رغم الوعود الكثيرة بتحقيق تحسن.
• ازداد الاستفزاز الذي تثيره الحياة الباذخة المبالغ فيها من جانب القلة الثرية عما كان عليه في شهر يناير الماضي، عندما كانت الملاهي الليلية، كرموز للحياة المترفة الشريرة، من بين الأهداف المميزة للغوغاء.
• هناك شعور بأن من بين الذين يحققون مكاسب من السياسات الاقتصادية الجديدة شخصيات مقربة من الرئيس نفسه، بمن فيهم زوجته، ورجلا الأعمال عثمان أحمد عثمان وأشرف مروان.
• هناك بعض إشارات إلى الإخفاق في وجود تأثير للسادات وإلى فقدانه السلطة. وهناك من يقول إنه معزول ويتلقى بشكل متزايد نصائح سيئة، وبعيد عن الواقع. وحسب مروان، فإنه (السادات) عنيد يريد أن ينصاع الجميع لرأيه.
• افتقار الرئيس الواضح لإدراك المشكلات الاقتصادية هي دائما نقطة ضعف.
• هناك مفارقة تتمثل في أن النصيحة الاقتصادية من جانب صندوق النقد الدولي التي تساندها الدول الغربية، واستعداد الرئيس لاتباعها، تسبب له مشكلات سياسية عاجلة، رغم احتمال جدوى هذه النصيحة بالنسبة لأفق مصر الاقتصادي الأبعد مدى.
•سياسيا، من الواضح للعيان أن مفهوم الرئيس، الخاص بأحزاب اليمين واليسار والوسط، التي تؤدي كلها أدوارا وفق قواعد مرسومة بعناية على مسرح مجلس الشعب، يتسم بالغرابة.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، أشارت التقارير البريطانية إلى “خيبة أمل هائلة” لدى نظام السادات، خاصة في ظل “التعنت الإسرائيلي”.
وقالت إن هذه “الخيبة” زادت “في ضوء الآمال التي أثارتها تصريحات الرئيس (الأمريكي جيمي) كارتر السابقة والتي أدت إلى أن يظن الناس أن الإدارة الأمريكية سوف تمارس ضغطا على إسرائيل بشكل أسرع وأكثر فعالية مما هو عليه الحال حتى الآن”.
وخلصت إلى أن السادات “في حاجة ماسة، بلا شك، إلى نجاح” ما، لأن “هناك تدهورا في وضع الرئيس السادات ونظامه”.
وفي ظل هذه الخلفية، قال تقرير للسفارة في القاهرة إنه “من الممكن بسهولة التنبوء بوجود ظروف قد يختفي فيها الرئيس”.
وانتهى إلى أن “أحد الاحتمالات الواضحة هو انهيار للقانون والنظام يجلبه السخط الاقتصادي من هذا النوع الذي حدث في شهر يناير الماضي مع عدم استعداد الجيش هذه المرة لاستعادة الوضع”.
وأشار إلى احتمال آخر هو أن “خيبة الأمل في سياسات السادات تجاه السلام وسياساته الخارجية عموما، وكذلك إخفاقاته الداخلية، ستدفع مجموعة من الأشخاص الساعين لاستبداله عن طريق اضطرابات عامة أو بدونها”. ولو حدث ذلك، فـ”سوف يوافق الجميع تقريبا على أن الجهة الوحيدة القادرة على أن تُخرج هذه المجموعة ذات القدرة على التصرف بفعالية هي مؤسسة الجيش”.
وقال السفير، إن الجيش “هو صاحب الكلمة الحاسمة. إنه هو الذي سيحسم الأمر إن تجددت اضطرابات خطيرة”.
وفي السادس من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1981، اغتيل السادات في أثناء حضوره عرضا عسكريا بمناسبة الذكرى الثامنة لحرب أكتوبر.