هل يتضمن “كتاب الاستقصا” للمؤرخ الناصري افتراءات على “زعيم المرابطين”؟
أبدى الباحث المصطفى حميمو استغرابا لما تضمنه كتاب الاستقصا للناصري وما جاء فيه من افتراءات في حق عبد الله بن يسين، مؤكدا ضرورة اجتناب التسرع في تصديق أي خبر عن أحداث الماضي ولا عن أحداث الحاضر.
ودعا حميمو ضمن مقال بعنوان “من افتراءات الأندلسيين على عبد الله بن يسين زعيم المرابطين” إلى ضرورة التمييز بين المؤرخ والإخباري عند قراءة أخبار أحداث الماضي، مبرزا أن كل خبر مثير للاستغراب من الماضي أو من الحاضر يمكن التحقق من صحته أو من زيفه بفضل منصات البحث المتوفرة والوافرة.
وهذا نص المقال
استغربتُ كثيرا مما جاء في كتاب الاستقصا للناصري رحمه الله عن عبد الله بن ياسين زعيم المرابطين، لما قال عن سيرته في النساء، وبالأخص النساء الجميلات: “وكَانَ مَعَ ذَلِك كثير النِّكَاح يتَزَوَّج فِي كل شهر عددا منهن ثمَّ يُطَلِّقهُنَّ وَلَا يسمع بِامْرَأَة جميلَة إِلَّا خطبهَا”. أورد ذلك وكأنه كان من حسناته. تشعر بذلك لما تجده يقول في سيرة ابن ياسين مع المصلين: “وَمن حسن سياسته أَنه أَقَامَ فِي صنهاجة السّنة وَالْجَمَاعَة حَتَّى أَنه ألزمهم أَن من فَاتَتْهُ صَلَاة فِي جمَاعَة ضرب عشْرين سَوْطًا وَمن فَاتَتْهُ رَكْعَة مِنْهَا ضرب خَمْسَة أسواط”.
أورد ذلك رحمه الله من دون ذكر مصادره ومن دون أن يرى في ذلك عيبا ولا غضاضة ولا تطرفا. بل استحسنه كما تقدم، لما قال في سيرة ابن ياسين مع المصلين: “وَمن حسن سياسته أَنه….” والواو هنا يعني أن ما تقدم في سيرته مع النساء كان أيضا من حسن سياسته. ولا لَوْم عليه لأنه ابن عصره. أما اليوم فهو الشيء نفسه الذي يُقال من باب الذمّ والاستهجان، وبحق، في حق تطرف “داعش”.
ولكن سرعان ما وجدتُه يقول في الكتاب نفسه: “وَاعْلَم أَنه قد يُوجد هُنَا لبَعض المؤرخين حطّ من رُتْبَة أَمِير الْمُسلمين (يعني يوسف بن تاشفين) وغض عَلَيْهِ إِمَّا فِي كَونه كَانَ بربريا من أهل الصَّحرَاء بَعيدا عَن مناحي الْملك وَالْأَدب ورقّة الْحَاشِيَة وَإِمَّا فِي كَونه تحامل على مُلُوك الأندلس حَتَّى فعل بهم مَا فعل. وَذَلِكَ حِين عاين حسن بِلَادهمْ ورفاهية عيشهم. وَاعْلَم أَن هَذَا الْكَلَام جدير بِالرَّدِّ. وَأَصله من بعض أدباء الأندلس الَّذين كَانُوا ينادمون مُلُوكهَا ويستظلّون بظلهم ويغدون وَيَرُوحُونَ فِي نعمتهم. فحين فعل أَمِير الْمُسلمين بسادتهم وَرُؤَسَائِهِمْ مَا فعل أَخذهم من ذَلِك مَا يَأْخُذ النُّفُوس البشرية من الذب عَن الصّديق والمحاماة عَن الْقَرِيب حَتَّى بِاللِّسَانِ. وَإِلَّا فقد كَانَ أَمِير الْمُسلمين رَحمَه الله من الدّين والورع على مَا قد علمت وَمن ركُوب الجادة وتحري طَرِيق الْحق على الْوَصْف الَّذِي سَمِعت”.
وهو الأمر الذي لم ينتبه إليه رحمه الله لما أورد ما قيل في حق عبد الله بن ياسين. فلا يعدو أن يكون ذلك وبلا شك من المشكاة نفسها. فهو أيضا من افتراءات بعض أدباء الأندلس الَّذين كَانُوا ينادمون مُلُوكهَا ويستظلّون بظلهم ويغدون وَيَرُوحُونَ فِي نعمتهم. فحين فعل المرابطون مَا فعلوا بسادتهم وَرُؤَسَائِهِمْ أَخذهم من ذَلِك مَا يَأْخُذ النُّفُوس البشرية من الذب عَن الصّديق والمحاماة عَن الْقَرِيب حَتَّى بِاللِّسَانِ. وَإِلَّا فقد كَانَ عبد الله بن ياسين مثل يوسف بن تاشفين رَحمَهما الله من الدّين والورع على مَا قد علمت وَمن ركُوب الجادة وتحري طَرِيق الْحق على الْوَصْف الَّذِي سَمِعت. ولهذا عند قراءة أخبار أحداث الماضي، ينبغي دائما التمييز بين المؤرخ والإخباري.
الإخـباري، على جلال قدره، كحاطب ليل، يأتيك بكل ما سمع وقرأ، ويقول لك في نهاية الخبر وبحق “الله أعلم”. ويبقى عليك أنت تحري الحقيقة بنفسك بالبحث بين مختلف المصادر للتمييز بين الصحيح والسقيم. وهذا، كما تقدم، لا ينقص أبدا من قيمة الإخباريين ولا من جلال قدرهم، لأنه بفضل مجهوداتهم الجبارة والمضنية نعرف ما نعرف حتى اليوم عن ماضي أجدادنا
أما المـؤرخ فيعفيك من تلك المشقة لما يدقق هو بنفسه في صحة الخبر بوسائله الخاصة. والخبر المشكوك في صحة تاريخيته يورده بالصيغة التي تدل على ذلك. وأسوق لك مثالا من كتاب “دولة الإسلام في الأندلس” لمؤلفه المؤرخ محمد عبد الله عنان (ت 1987)، مثال يتضمن في الوقت نفسه فائدة. يتعلق الأمر بعدم صحة خبر اللقاء بين أبي حامد الغزالي صاحب إحياء علوم الدين ومحمد بن تومرت زعيم الموحدين.
وذلك لما قال رحمه الله: “نجد في بعض الروايات أن ابن تومرت لقي الإمام أبا حامد الغزالي ودرس عليه في بغداد، وقيل بل لقيه بالشام أيام تزهده. ونحن نقف قليلا عند هذه الرواية، التي يرددها كثير من مؤرخي المشرق والمغرب، إذ متى وأين كان هذا اللقاء، وفي أي الظروف؟ لقد خرج ابن تومرت من وطنه في طلب العلم في سنة 500 أو 501هـ، وقضى فترة في الأندلس، وفي المهدية، وفي الإسكندرية، ثم سافر لقضاء فريضة الحج، وقصد على أثر ذلك إلى بغداد، وإذن فيكون من المرجح أنه لم يصل إليها قبل سنة 504 و505هـ.
وقد كان الإمام الغزالي ببغداد يضطلع بالتدريس بين سنتي 484 و488هـ. وفي سنة 488هـ غادر العاصمة العباسية، في رحلته التأملية الشهيرة التي استطالت حتى سنة 499هـ، والتي زار فيها دمشق وبيت المقدس والإسكندرية ومكة والمدينة. وإذن فيكون من المستحيل مادياً أن يكون ابن تومرت الذي غادر وطنه لأول مرة في سنة 500هـ، قد استطاع أن يلتقي بالغزالي في بغداد أو غيرها من المدن التي زارها في خلال رحلته، ثم إنه ليس من المحتمل أن يكون هذا اللقاء قد وقع عند عودة الغزالي إلى بغداد. ذلك أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، ثم رحل منها إلى نيسابور حيث قام بالتدريس فيها استجابة لدعوة السلطان ملك شاه، ثم غادرها بعد قليل إلى مسقط رأسه طوس، وانقطع بها للعبادة والتأليف حتى توفي في جمادى الثانية سنة 505 هـ. ويتضح من ذلك جلياً بطلان قصة اللقاء بين ابن تومرت والإمام الغزالي من الناحية التاريخية.
وفضلا عن ذلك، فإنه يوجد دليل مادي آخر على بطلان هذه القصة أو الأسطورة. ذلك أنها تقرن بواقعة أخرى خلاصتها أن ابن تومرت حينما لقي الإمام الغزالي، وأخبره بما وقع من إحراق المرابطين لكتابه “إحياء علوم الدين” بالمغرب والأندلس، تغير وجهه، ورفع يده إلى الدعاء، والطلبة يؤمنون، فقال: “اللهم مزق ملكهم كما مزقوه، وأذهب دولتهم كما أحرقوه”، وأن ابن تومرت رجا الإمام عندئذ أن يدعو الله أن يكون ذلك على يده، فاستجاب الإمام، ودعا الله بذلك. وينقض هذه الواقعة من أساسها، أن قرار المرابطين بحرق كتاب “الإحياء” قد صدر لأول مرة في سنة 503هـ في أوائل عهد علي بن يوسف، وذلك حسبما يخبرنا ابن القطان، أعني بعد أن غادر الغزالي بغداد إلى نيسابور لآخر مرة، وقبيل وفاته بنحو عام. فأين إذن ومتى كان لقاء ابن تومرت به؟ وكيف نستطيع إزاء هذه المفارقات الزمنية أن نصدق تلك القصة التي نسجت حول حرق كتاب الإحياء؟
فهي أسطورة إذن، نسجت كما نسجت نسبة ابن تومرت إلى آل البيت، لتغدو هالة تحيط بشخصه وسيرته، وتذكي عناصر الخفاء القدسية حول شخصه وإمامته. وقد اختير الإمام الغزالي لبطولتها بالذات لتبوئه يومئذ أسمى مكانة من العلم والدين والورع في العالم الإسلامي، ولشهرته الذائعة في المغرب، وصلاته المعروفة بعاهل المرابطين يوسف بن تاشفين، وتأثيره الشرعي لديه، وتأييده لدولته”.
وهكذا وكما تقدم، ينبغي دائما اجتناب التسرع في تصديق أي خبر عن أحداث الماضي ولا عن أحداث الحاضر. فاليوم بفضل الله، كل خبر مثير للاستغراب من الماضي أو من الحاضر يمكن التحقق من صحته أو من زيفه بفضل منصات البحث المتوفرة والوافرة. ولا يليق بالمتعلم، ولا سيما بالمثقف، التسرع بالمشاركة في نشر ما يصله من أخبار عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. أخبار كمْ يحلو لعموم الناس تصديقها لما فيها من إثارة، ويكرهون تكذيبها وحتى من يُكذبها حتى لما تكون فعلا وبكل وضوح زائفة.