روسيا وأوكرانيا: قوات الجبهة تناقش الهجوم المضاد بين تفائل وتشائم
- Author, أندرو هاردينغ
- Role, بي بي سي نيوز
- Reporting from شرق أوكرانيا
عندما بدأ تأثير المخدر في التلاشي، أطلق جندي أوكراني هزيل ملطخ بالطين، أنينا منخفض الصوت في مؤخرة سيارة الإسعاف، قبل أن يتحسس قناع الأكسجين الموضوع فوق أنفه وأخذ يتمتم: “أعطني بندقيتي!”.
“غالبا ما يكونون على هذا النحو. يعانون الكثير من الصدمات النفسية”
هكذا قالت الدكتورة إينا ديميتر وهي تُربِّت على وجه الجندي الشاحب، قبل أن يفقد وعيه مرة أخرى، وتنحرف سيارة الإسعاف بسرعة شديدة لتبتعد عن الخطوط الأمامية جنوب شرق زابوريجيا.
الجندي يدعى أوليه ويبلغ من العمر 19 عاما.
في صباح ذلك اليوم وهو في خندقه، أصابته شظية من قذيفة هاون روسية، وأحدثت حفرة كبيرة أسفل ظهره، وهناك احتمال كبير أن تكون قد تسببت في قطع النخاع الشوكي.
تقول الدكتورة ديميتير: “حالته مستقرة لكنها خطيرة. وهناك الكثيرون في مثل حالته”، مشيرة إلى ست حالات أخرى في الأيام الأخيرة، حيث تعمل ديميتير ضمن منظمة خاصة للمساعدات بتمويل غربي تدعى MOAS.
ومع تزايد الخسائر في صفوف المشاركين في الهجوم المضاد في أوكرانيا، كان من السهل معرفة السبب. ففي زيارة نادرة إلى هذا الجزء الخاضع لحراسة مشددة بالجبهة الجنوبية، بدأ بعض الجنود والمراقبين في التساؤل عن مدى اختراق الموقع، أو أن الخطوط الدفاعية الروسية، التي بُنيت بإحكام خلال أشهر الشتاء، هي أكثر من مجرد حاجز.
وقال كيريلو بوتراس أحد أفراد مشاة البحرية الأوكرانية الذي أصيبت ساقه اليسرى بلغم روسي في عام 2020، “بدون المزيد من المساعدة الغربية، أعتقد أننا قد نخسر هذه اللعبة”، مؤكدًا أن وجود حقول ألغام روسية واسعة النطاق يمثل عقبة كبيرة.
وأضاف: “هؤلاء الروس.. هناك الكثير منهم. ولديهم العديد من المدافع المضادة للدبابات وأنظمة الصواريخ”.
ومع ذلك، وبعد شهر واحد من هذا الهجوم المضاد الذي كان يُعد له منذ فترة طويلة، هناك الكثير من الجنود والخبراء الذين لا يوافقون بوتراس الرأي، فهم يرون أن جولة البداية تسير وفقا للخطة، وأن خط الجبهة الذي يشكل شبه قوس يمتد لأكثر من ألف كيلومتر من ساحل البحر الأسود حتى الحدود الشمالية الشرقية لأوكرانيا مع روسيا، لن يُخترق بنفس السرعة المفاجئة التي حققتها قوات كييف العام الماضي.
بعد أن أمضيت الأسابيع القليلة الماضية في زيارة ثلاثة مناطق مختلفة من الجبهة، وتحدثت إلى العديد من الأفراد، فإنني أميل إلى تقسيم وجهات النظر المختلفة هذه إلى ثلاث مجموعات: مجموعة تتخيل أن الخطوط الدفاعية لروسيا مصنوعة من الصفيح، وأخرى تراها من الخشب، وثالثة تتخيلها من زجاج.
تشكلت نظرية الصفيح “المرن الصامد” لأول مرة بالنسبة لي منذ أكثر من أسبوعين، من خلال أحد الأطباء المرهقين الذي التقيت به في مستشفى ميداني بالقرب من مدينة باخموت التي تعاني الدمار.
في وسط الحطام ونيران المدفعية، وصف لي ذلك الطبيب الخسائر البشرية المتزايدة في أوكرانيا، وقال إن روسيا كان لديها وقت طويل جدا لإعداد دفاعاتها، ولديها عدد كبير جدا من القوات، وخلص إلى أنه في حين أن أوكرانيا قد تكون قادرة على دفع الروس إلى الخلف، ربما حتى عشرات الكيلومترات، إلا أنها ستكافح للقيام بما هو أكثر من إضعاف السيطرة الاستراتيجية الشاملة لروسيا على شرق وجنوب شرق أوكرانيا.
وقال بحزن: “أعتقد أن هذه الحرب لن تنتهي في ساحة المعركة، بل باتفاق سياسي”.
أما نظرية الخشب، والتي أعني بها أن الخط الأمامي أكثر عرضة للتشقق لا الانهيار، فقد خطرت ببالي بعد ثلاث ساعات في السيارة جنوب غرب باخموت، خلف بلدة فيليكا نوفوسيلكا الصغيرة.
في الحقول والتلال المنحدرة التي تمتد باتجاه البحر الأسود، كانت القوات الأوكرانية تتقدم نحو الأمام، ووجدت طرقا عبر حقول الألغام ومواقع لمهاجمة الروس من زوايا غير متوقعة، وبخطوات بطيئة مستمرة، سيطرت على أجزاء كبيرة من الأراضي وعدة قرى وبلدات صغيرة.
“أنا شخص واقعي، رغم أن بعض الناس يصفوني بالمتشائم”.
قال ذلك أرتيم، وهو جندي يبلغ من العمر 36 عاما، بينما كانت طائرة أوكرانية تحلق فوق رؤوسنا. كانت وجهة نظره أن الروح المعنوية للقوات الروسية منخفضة، وأن من المحتمل أن تحقق أوكرانيا بعض الإنجازات المهمة في الأشهر المقبلة، لكنه لا يرى أن الهجوم المضاد سيتحول إلى هزيمة للروس، كما حدث لفترة وجيزة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وأضاف: “الإعلام والمجتمع في عجلة من أمرهم، لكن الخيار الأسوأ ممكن دائما” ، متسائلا عن “الثمن” الذي تقبل أوكرانيا دفعه فيما يتعلق بالخسائر المحتملة لتحقيق مكاسب استراتيجية في الخطوط الأمامية لروسيا.
جدير بالذكر أن وجهات النظر الأكثر تشاؤما فيما يتعلق بالهجوم المضاد، تأتي من الجنود الأقرب إلى الخطوط الأمامية والأكثر مشاركة في العمليات القتالية.
ويمكن القول إنهم أكثر خبرة ووجهات نظرهم أكثر واقعية، لكن من المنطقي أيضا الإشارة إلى أن هؤلاء الجنود هم الأقل قدرة على رؤية الصورة الأكبر، فهم في الحقيقة مستغرقون في جزء صغير من عملية عسكرية ضخمة.
أما عن نظرية الزجاج، فيتبناها بشكل كبير محللون عسكريون غربيون بارزون مثل ميك رايان وجنرالات مثل قائد القوات المسلحة البريطانية السير توني راداكين، ومفادها أن الهجوم المضاد يسير كما ينبغي له، وأنه في غضون أسابيع أو شهور ستتحطم دفاعات روسيا، ما يسمح لأوكرانيا باستعادة الأراضي ذات الأهمية الاستراتيجية والتقدم بالقرب من – إن لم يكن في – شبه جزيرة القرم.
ويحث مؤيدو هذه النظرية على الصبر لا التشاؤم، بحجة أن افتقار أوكرانيا إلى الغطاء الجوي يعني أنها لا تستطيع تدمير “النظام التشغيلي” الروسي، بمعنى خطوط الإمداد اللوجيستية ومراكز القيادة، بالسرعة التي تريدها.
بدلا من ذلك، تستخدم القوات الأوكرانية صواريخ أرضية للقيام بهذه المهمة، وفي نفس الوقت تهاجم المواقع الروسية في أكبر عدد ممكن من الأماكن، لعرقلة وتدمير أكبر عدد ممكن من الجنود ومعدات العدو.
ووصف السير توني، رئيس أركان الدفاع البريطاني، هذه الاستراتيجية في البرلمان هذا الأسبوع قائلا: “جوع وفرّق واضرب”، وخلص إلى أن روسيا “فقدت بالفعل ما يقرب من نصف الفعالية القتالية لجيشها”.
في مستشفى ميداني آخر، حيث قام الأطباء بإسعاف الجندي أوليه البالغ ذي الـ19 عاما، والذي أصيب بجروح خطيرة في الظهر قبل ركوب سيارة الإسعاف إلى زابوريجيا، التقيت بطبيب أوكراني طلب استخدام اسمه الأول فقط، يفخن، لخص ما أراه المزاج السائد المتفائل لمعظم الجنود والمسؤولين الأوكرانيين الذين التقيت بهم هنا.
“الجميع ينتظر النصر. نحن نؤمن بحدوثه وننتظر. ونعلم أن كل شيء سيكون على ما يرام. نحن فقط في حاجة إلى التحلي بالصبر”
قال ذلك مبتسما وهو يجلس في ضوء الشمس خارج المستشفى الميداني المنظم، مع ازياد دوي قذائف المدفعية التي يتردد صداها عبر المدى.