واقعة حرق المصحف تسائل التوازن بين حقوق الأفراد واحترام المعتقدات الدينية
امتنعت سلطات السويد عن منع شخص من حرق القرآن أمام العموم يوم عيد الأضحى، وهو فعل لم يثر استياء دول إسلامية فقط، وإنما حتى السويد نفسها. كما أثار حفيظة دول أخرى في حادث مماثل في البلد نفسه، من قبيل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، بل وأثار استياء في صفوف مجموعة من المارة الذين عاينوا هذا الفعل، معتبرين الأمر خارجا عن نطاق حرية التعبير وفق ما عبروا عنه لـBBC.
إن التشريعات في بعض البلدان تحمي المقدسات الدينية من خلال تجريم إهانتها، وهو ما يثير تساؤلات حول حرية التعبير والرأي، إذ تطرح تحديات تتعلق بتحقيق التوازن بين حقوق الأفراد واحترام المعتقدات الدينية.
وتعتبر حرية التعبير حقا كونيا نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 19 التي جاء فيها: “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير”، وهو ما أكده حتى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي نص من خلال المادة 19 منه على أن “(2) لكل إنسان الحق في حرية التعبير”، وهي المادة التي أكدت أن ممارسة هذا الحق تستتبع “واجبات ومسؤوليات خاصة”؛ كما نصت على قيود على ممارسته حيث “يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية: (أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، (ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة”.
وكذلك هو الشأن بالنسبة إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي تنص المادة 10 منها على القيود الواردة على صور حرية التعبير كما يلي: “هذه الحريات تتضمن واجبات ومسؤوليات، لذا يجوز إخضاعها لشكليات إجرائية، وشروط، وقيود، وعقوبات محددة في القانون حسبما تقتضيه الضرورة في مجتمع ديمقراطي، لصالح الأمن القومي، وسلامة الأراضي، وأمن الجماهير وحفظ النظام ومنع الجريمة، وحماية الصحة والآداب، واحترام حقوق الآخرين، ومنع إفشاء الأسرار، أو تدعيم السلطة وحياد القضاء”.
ومن ثم فإن القول إن الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان تسمح بحرية مطلقة للتعبير هو قول خاطئ وفي أحيان كاذب بالنسبة للبعض، فهذه الاتفاقيات وضعت الحدود التي حين تجاوزها فإن هذا الحق يتحول إلى انتهاك لحقوق الإنسان.
وفي هذا الصدد، وعلاقة بإهانة المقدسات الدينية، فقد سبق للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن أكدت أنه يمكن أن يكون من المشروع أن تتضمن التشريعات التزاما بتجنب التعابير التي تكون مهينة للآخرين وتتجاوز حدود الاحترام، موضحة أنه من حيث المبدأ قد يكون من الضروري معاقبة الهجمات المسيئة ضد المقدسات؛ كما أقرت بأن تجريم الإساءة للأديان يمكن تبريره في بعض الظروف، ولكن يجب أن يتم في إطار من التناسب ولا يجب أن يتجاوز ما هو ضروري في مجتمع ديمقراطي.
وهو الموقف الذي عبرت عنه هذه المحكمة في الملف (İ.A. c. TURQUIE) رقم 42571/98 الذي صدر بشأنه قرار بتاريخ 13 شتنبر 2013، إذ قام صاحب دار نشر في تركيا بنشر رواية ينتقد ويستهزئ من خلالها بجوانب من الدين الإسلامي، ومن ثم جرت متابعته بتهمة توجيه إهانة عن طريق النشر إلى “الله والدين والنبي والكتاب المقدس”، وأدانته المحكمة بالحبس لمدة سنتين إضافة إلى غرامة، ثم تم تحويل الحكم الحبسي إلى غرامة بقيمة ضئيلة، وهو الحكم الذي تم تأكيده من لدن المحكمة العليا.
وبعد أن عرض الملف على المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان أكدت على عدم انتهاك المادة 10 (حرية التعبير) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، معتبرة أن الأمر لا يتعلق فقط بعبارات تثير الجدل أو تصدم، أو رأي “مستفز”، بل كانت هجمة مسيئة ضد شخص النبي محمد.
وأضافت المحكمة أنه رغم وجود درجة من التسامح في المجتمع التركي، الذي يعتز بمبدأ العلمانية، فإنه عندما يتعلق الأمر بانتقاد المذاهب الدينية يمكن للمؤمنين أن يشعروا بأنهم يتعرضون لهجوم غير مبرر ومهين من بعض فصول الكتاب المثير للجدل، واعتبرت أن التدابير المتخذة هدفها توفير حماية ضد الهجمات المهينة في ما يتعلق بالقضايا المقدسة بالنسبة للمسلمين، وبالتالي تلبي حاجة اجتماعية ملحة.
وبالنسبة لمبدأ التناسب أخذت المحكمة في الاعتبار أن المحاكم التركية لم تقرر حجز الكتاب المعني، وبالتالي قدرت أن الحكم بتغريم زهيد يبدو متناسبا مع أهداف التدبير المعني.
كما أصدرت محكمة حقوق الإنسان ذاتها قرارا في 18 مارس 2019 يتعلق بمواطنة نمساوية تمت إدانتها من قبل المحاكم النمساوية بتوجيه تصريحات مهينة للنبي محمد (عليه الصلاة والسلام) خلال ندوة عن الإسلام (ملف عدد 12/ 38450)، إذ أعلنت على وجه الخصوص أن “النبي كانت لديه علاقات جنسية بيدوفيلية”..
وقد اعتبرت المحكمة أن المحاكم التي نظرت في القضية أخذت بعين الاعتبار السياق الذي أدلي فيه بتلك التصريحات، وأنها وازنت بدقة بين حق المرأة في حرية التعبير وحق الآخرين في حماية مشاعرهم الدينية، وحافظت على السلام الديني في النمسا.
وأكدت الجهة ذاتها أن هذه المحاكم سعت إلى تحديد الحدود بين النقد المقبول للمذاهب الدينية والتشويه، واعتبرت أن تلك التصريحات كانت من نوع يثير استياء مبررا لدى المسلمين، إذ إنها لم تكن مصاغة بشكل محايد بهدف تقديم مساهمة موضوعية في نقاش عام حول زواج الأطفال، ولكنها كانت تعتبر تعميما لا يستند إلى حقائق، وهو ما أدى بالمحاكم الوطنية إلى استنتاج أن الأفعال المذكورة تحتوي على عناصر تحريض على التعصب الديني.
ومن ثم اعتبرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن هذه المحاكم قدمت أسبابا ملائمة وكافية، وترى أن التدخل في ممارسة المدانة حقوقها المكفولة بموجب المادة 10 يتوافق مع ضرورة اجتماعية ملحة، وأنه محترم لمبدأ التناسب؛ لذلك اعتبرت أن السلطات القضائية الوطنية لم تتجاوز نطاق سلطتها التقديرية بإدانة المشتكية بتشويه المذاهب الدينية، وبالتالي لم يحدث انتهاك للمادة 10 من الاتفاقية.
وسبق أن صدر قرار للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة رقم 61/164 في 19 دجنبر 2006 حول مناهضة تشويه صورة الأديان (رمز الوثيقة: A/RES/61/164) أكدت من خلاله لزوم احترام الديانات والمعتقدات أثناء ممارسة الحق في التعبير، إذ أعلنت أنها “إذ تلاحظ مع القلق أن تشويه صورة الأديان سبب من أسباب التنافر الاجتماعي يفضي إلى انتهاك حقوق الإنسان.. وإذ تلاحظ مع بالغ القلق الاتجاه المتزايد في السنوات الأخيرة للتصريحات التي تنطوي على هجوم على الديانات، ولاسيما على الإسلام والمسلمين، وبخاصة في محافل حقوق الإنسان…تشدد على أن لكل فرد الحق في حرية التعبير الذي ينبغي أن يمارس بطريقة مسؤولة، ويمكن بالتالي أن يخضع لقيود حسب المنصوص عليه في القانون وحسبما يقتضيه احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، أو حماية الأمن الوطني أو النظام العام، أو الصحة العامة أو الآداب واحترام الديانات والمعتقدات”.
إن التمتع بحرية التعبير لا يعني انتهاك حقوق الغير ولا التحريض على ارتكاب الجرائم ولا الإشادة بارتكابها. وفي هذا الصدد أتذكر تصريحات لنشطاء في مجال حقوق الإنسان في إطار منظمات دولية غير حكومية، اعتبروا أن السب والقذف أفعال مكفولة بمقتضى الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وهو إدعاء لا سند له، وينم عن ابتعاد أربابه عن الفهم العلمي لهذا المجال. ولربما أن ما يقوم به كثيرون هو أشبه باشتغال الصيدلي كطبيب ومقاول البناء كمهندس معماري، ذلك أن تفسير النصوص هو عمل يندرج ضمن تخصص هو علم القانون.