تموز: الإله الميت الحي وأسطورة العشق الأبدي
- Author, ديما عودة
- Role, بي بي سي – لندن
شهر تموز/ يوليو، هو شهر مرتبط بقدوم الصيف بكل ما يحمله من خصب ونضج للطبيعة، ولاسم هذا الشهر، كما تعرفه دول المشرق العربي، دلالة أسطورية حيث جاء اسمه من إله الزراعة والرعي (النباتات والماشية) تموز.
ولتموز الإله قصة حزينة، فرغم أنه ينتمي إلى الآلهة التي أوجدها واختارها الإنسان الأول ليسكنها السماء، والتي تشبهه إلى حد بعيد، إذ تحب وتكره وتتزوج وتنتقم، إلا أنها تختلف عنه بكونها خالدة، لكن تموز هذا الإله الفريد لم يكن خالداً.
ولعل أقدم النصوص التي تحدثت عن أسطورة تموز هي النصوص السومرية التي روت قصة الإله ديموزي (تموز) مع الإلهة إنانا (عشتار) وفيما بعد جاء ذكره في النصوص البابلية والآشورية.
تموز في حضارات مختلفة
يقول الكاتب والباحث السوري، جورج كدر، مؤلف كتاب (معجم آلهة العرب قبل الإسلام): “في النقوش القديمة كان اسم تموز مرتبطا باسم الإله أبسو البابلي، وهو كبير الآلهة وإله المياه، وكان يشار إليه بـ تموز أبسو، والذي يعني ابن الإله”.
ويشير كدر إلى أن ديموزي في التسمية السومرية يعني ابن إله المياه العظيم، فتموز أخذ أسماء مختلفة في حضارات مختلفة “فهو ديموزي السومري، وتموز البابلي، وأدونيس الإغريقي، وأدون الفينيقي، كما هو أيضا أدونيس في حضارة أوغاريت”.
وهناك اعتقاد سائد لدى بعض الباحثين أن تموز كان من سلالة ملوك سومر قبل مايسمى بعصر الطوفان، ويفسر كدر السبب وراء هذا الاعتقاد: “من المرجح أن عصر الملك تموز كان عهد خصب وازدهار ورخاء، فتم تخليده بإحدى أهم أساطير العالم القديم وهي أسطورة الخصب المقدس”.
أسطورة العشق والموت
تقول الأسطورة إن الإله تموز وقع في غرام إلهة الخصب والحب والجمال عشتار، وبعد منافسة مع الكثيرين من خاطبي ودها والمتوددين إليها، نجح تموز في إقناع عشتار بالزواج منه.
وعاش الاثنان في نعيم وأُطلق على بيتهما اسم “بيت الحياة”، إذ جمع هذا الزواج المقدس بين إلهة الحب والخصب وإله الرعي والنباتات (الطعام) وبذلك اختزلا أساس الحياة ومن هنا أتت التسمية.
ويشرح الباحث جورج كدر: “لفهم الطبيعة وتغيراتها لجأ الإنسان القديم إلى تجسيدها بهيئة بشرية، وقد ارتبط اسم تموز باسم عشتار لتكتمل قصة الزواج المقدس، ويعني اسم عشتار في اللغات القديمة (الرحم) وهو مصدر عملية الخلق، فمن الطبيعي المقاربة بين المرأة والطبيعة باعتبار أن عشتار (الرحم) هي الأرض التي تعطي الإنسان خيراتها”.
لكن عشتار قررت النزول إلى العالم السفلي، وعلى الرغم من أن السبب وراء قرارها هذا يلفه غموض كبير، إلا أن بعض الباحثين أرجعوا ذلك إلى طموحها، فقد أرادت أن تطلق الأموات من العالم السفلي الذي تحكمه أختها “أريشكيجال”.
وفي مغامرة غير مدروسة، وضعت عشتار تاجها على رأسها وحملت صولجانها الشهير ولبست كل ما لديها من حلي وهبطت إلى العالم السفلي.
هبطت عشتار طبقات العالم السفلي السبع، وعند كل بوابة من البوابات السبع كان الحراس ينزعون عنها شيئا من حليها وثيابها، إلى أن وصلت عارية تماما إلى بلاط أريشكيجال التي كانت جالسة على عرشها وحولها قضاتها السبعة.
أصدر قضاة العالم السفلي حكمهم بموت عشتار وتحولت بنظرة من اختها إلى جثة هامدة.
لكن وزير عشتار المخلص “ننشبور” يبدأ برحلة طويلة إلى عظماء الآلهة لإقناعهم بإنقاذ سيدته، وبعد محاولات فاشلة وصل إلى الإله أنكي، إله الحكمة والمعرفة، ونجح في استمالته لإنقاذها من عالم الأموات.
يشرع أنكي في مساعدة عشتار فيرشها بماء الحياة وينثر على جسدها طعام الحياة، لتستيقظ عشتار من موتها.
لكن قضاة أريشكيجال يقفون لها بالمرصاد، فهذا عالم الموت وتحكمه قوانين خاصة، ولا يمكن الرجوع منه، لذلك يصدرون حكمهم القاضي بأن على عشتار أن تجد بديلا يحل محلها في عالم الأموات.
ولضمان تنفيذ عشتار لقرار قضاة العالم السفلي، رافقها شياطين هذا العالم في رحلة البحث عن البديل.
وبعد جولة على عدد من البدائل المحتملين، وقع اختيار عشتار على زوجها وحبيبها تموز ليحل محلها في العالم السفلي، وقرارها هذا جاء بعد أن رأته جالسا على عرشها ولم تلمس ما يشي بحزنه عليها حين ماتت، وما كان من عشتار الغاضبة من لامبالاة تموز إلا أن سلمته لشياطين العالم السفلي.
وبعد محاولات يائسة للهروب من الشياطين، ينتهي تموز في العالم السفلي، عالم الأموات الذي لا عودة منه.
لكن عشتار تندم على قرارها حين يهدأ غضبها، وترغب في انقاذ حبيبها وزوجها لأن “بيت الحياة” بات مقفرا بغياب تموز ولا بد من عودته لتعود “الحياة”.
وبعد جدل طويل تنجح عشتار بإقناع قضاة اختها أريشكيجال بالسماح لتموز بالصعود إلى الأرض ستة أشهر من كل عام، على أن يقضي الأشهر الستة الأخرى في العالم السفلي.
تموز ورمزية الأسطورة
وفي تجسيد الإنسان للطبيعة بهيئة بشرية شكل من الرمزية، يقول الباحث جورج كدر: ” لقد عمد البشر إلى محاكاة المتغيرات التي تعيشها الفصول وطابقوها مع المزاج البشري، فأوجدوا الكثير من الطقوس الاحتفالية لتتلاءم مع الفصول، ففي الخريف يسود النواح والعويل، في محاكاة لنواح الرياح، وفي الشتاء دموع وفي الربيع حب وخصب وجمال وفي الصيف ولادة”.
وأسطورة تموز وغيابه في العالم السفلي ستة أشهر في السنة، ما هي إلا تجسيد لتعاقب الفصول، يضيف كدر: “قصة تموز وعشتار هي قصة الحياة والموت والبعث من جديد، ولقائهما الرمزي الدائم في الربيع يعطي لهذا الفصل معانيه المتجسدة في الخصب والحب والتكاثر”.
ويمضي للقول: “وبعد الولادة يأتي الصيف وهو الفصل الذي يموت فيه تموز في تجسيد لفكرة حصاد القمح، أي قطع أعناق القمح، ومن ثم درسه”.
ويشرح: “بعد موت تموز يزرع الإنسان حبة القمح تلك (الجافة والميتة) في رحم الأرض وتعود بعدها للحياة وتصبح بيدرا، تجسيدا لانبعاث الحياة من الموت، تماما كما يبعث تموز كل عام من رحم مملكة الموت في أعماق الأرض، ويعود إلى حضن عشتار، بيت الحياة، وهكذا تكتمل دورة الحياة، ستة شهور في عالم الأحياء (فصلا الربيع والصيف) وستة شهور في عالم الأموات (فصلا الخريف والشتاء)”.
الأسطورة والأديان
توجد في العديد من الأديان دلالات مشابهة لأسطورة تموز، يقول الباحث جورج كدر: “يمكن للمرء أن يلحظ تردد صدى أسطورة تموز في العديد من الأديان، حتى السماوية منها، فاسم موسى يعني في الفرعونية القديمة المنتشل من الماء أو لنقل مجازا ابن الماء، وهذا يتناغم مع اسم النسخة السومرية ديموزي، والتي تعني ابن إله المياه العظيم”.
ويضيف: “أما في المسيحية، فكرة الفداء والخلاص تتقاطع بشكل واضح مع أسطورة تموز، فالمسيح (ابن الله في المعتقد المسيحي) يفتدي البشر إذ يقدم جسده (الخبز) ودمه (الخمر) بالصفة الرمزية لهما، ليكفر عن خطايا البشر، فيموت ثم يقوم من الموت في اليوم الثالث لصلبه لتستمر الحياة، تماما كتموز الذي يموت ويعود إلى الحياة في دورة التجدد الكوني”.
وفي الإسلام، يرى كدر أن مأساة الحسين حفيد النبي محمد وما يرافقها من طقوس ندب ورثاء تشبه إلى حد بعيد طقوس ندب ورثاء الإله تموز في الأساطير القديمة.
وهكذا تكتمل أسطورة عشق تموز وعشتار لتصبغ بتقلباتها تقلبات فصول السنة، ولتختزل في ملحمة بديعة تجدد دورة الطبيعة الأبدية من الفناء إلى الحياة.