العيد الكبير .. قهرية الاحتفال ورمزية المكانة
تحفل ديانات الأرض بأعياد متعددة، غايتها إشاعة الحب والتسامح والاحتفال الجماعي وتقديم القرابين تقربا لله، فالهندوسية مثلا يبلغ عدد أعيادها 39 عيدا بينما يناهز العدد بالنسبة للديانات الإبراهيمية الثلاث 66 عيدا. تتنوع الأعياد كما تتنوع الطوائف والمذاهب الدينية، وتتفاوت أهميتها حسب أساس تشريعها ومدى انتشارها بين المجموعات السكانية. ولا شك أن طقوس الأعياد الدينية تتعارض مع الثقافة الفردانية، لهذا نجد تفاوتا واضحا في الإقبال عليها والالتزام بطقوسها، بين المجتمعات الأكثر تقدما والأكثر فردانية كحالة المجتمعات الغربية، والمجتمعات الأكثر تقليدانية والأكثر محافظة كحالة الكثير من المجتمعات الإسلامية، حيث يعتبر عيد الأضحى أهم أعيادها وأكثرها احتفالية، ويحتل بذلك منزلة وسطى بين ما هو دنيوي ويتمثل في الاحتفال الجماعي وما يرتبط به من استعدادات وزيارات وولائم… وما هو أخروي ويتجلى في الصلاة والدعاء وتقديم القرابين تقربا لله.
عيد الأضحى أم العيد الكبير؟
يدفعنا الحديث عن عيد الأضحى إلى إثارة السؤال حول تمفصل دلالات العيد، فوفق النص الديني يعود تاريخ تشريع عيد الأضحى إلى السنة الثانية من الهجرة، ويُستمد هذا التشريع من القصة القرآنية المعروفة لنبي الله إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام. وتعد “شعيرة نحر الأضحية” نقطة اختلاف بين الفقهاء فمنهم من يعتبرها واجبة ومنهم من يعتبرها سنة مؤكدة، ولعل الرأي الأكثر إقناعا هو اعتبارها سنة مؤكدة، وقد قال الإمام مالك “الأضحية مسنونة غير مفروضة”، كما صح عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا أحيانا لا يضحيان، مخافة أن يعتقد الناس أن الأضحية واجبة. وعموما من المعروف لدى الفقهاء أن السسن التطوعية لا تبلغ مكانة الفرائض، لذلك فمن ترك سنة مؤكدة رغم قدرته عليها فقد فاته الثواب لكن لا إثم عليه، وبالتالي الحكم الشرعي واضح ولا يقبل المزيد من التأويل.
أضف إلى ما سبق أن نحر الأضحية يرتبط بامتلاك القدرة المالية ومن لم يمتلكها لا حرج عليه، فقد صح الفعل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ضحّى بكبشين، أحدهما عنه وعن أهل بيته، والآخر عمن لم يضحِّ من أمته. وبالتالي لا يفهم “هوس النحر” هذا، لدرجة الإقبال على القروض المباشرة أو غير المباشرة (أضحية بأداء بعدي) إلا وفق منطق العادة الاجتماعية الصرفة، وطبعا يتباين حضور هذه العادة بين الطبقات الاجتماعية، فإذا كانت الطبقات العليا غير مبالية بالعيد وما يدور في فلكه من منسابات احتفالية جماعية، لكونها اختارت أن تعيش “حياة منعزلة” ذات نمط معيشي مختلف عن المألوف الاجتماعي في جزر شبه مغلقة (فيلاتها، مقاهيها، نواديها…)، فإن الطبقات المتوسطة (وبالضبط الطبقة المتوسطة الوسطى والطبقة المتوسطة الدنيا) وباقي الطبقات الهشة والفقيرة، هم أكثر الفئات حرصا على شعيرة النحر، وإن كلفهم ذلك الاقتراض أو بيع أثاث منازلهم! فضلا عما سبق، تجب الإشارة إلى أن تحقق القدرة في زماننا هذا فيه جدال وسجال، لكونها تتأثر بمستجدات وتعقيدات العيش في القرن 21 مقابل بساطتها خلال العيش قبل 20.
يتميز عيد الأضحى لدى المغاربيين خصوصا بغزارة حمولته الثقافية، التي تُترجم إلى سلوك اجتماعي ملموس، ولعل أبرز أشكال هذا السلوك، هو الإصرار المطلق لأغلب الأسر من تونس إلى المغرب “حيث يسود المذهب المالكي”، على الالتزام المطلق بسنة إرادية “نحر الأضحية”، بل وتقوم بعض الأسر الممتدة بنحر عدد أضاح حسب عدد الزيجات رغم عوزها، إذ تبلغ أحيانا خمسة أضاحي تُنحر في الغالب صبيحة العيد. أما إذا ذهبنا إلى المشرق وخصوصا اليمن المتميز بتعدد مذاهبه فنجد غير ذلك تماما، حيث لا تلتزم الأسر الممتدة بهذا الشرط المغاربي، ومن الممكن أن تصادف بعض الأسر التي تضم أربع زيجات مثلا تكتفي بأضحية واحدة، مع العلم أن اليمن تعتبر من بين أكثر البلدان العربية تقليدانية.
يتشكل في هذا السياق مفهوم العيد الكبير لدى المغاربيين، والذي يمزج بين البعد الديني والبعد الثقافي والاجتماعي، حيث تحول “عيد الأضحى” إلى ممارسة اجتماعية مليئة بالرموز وذات برتوكول معين، تتأسس على طقوس احتفالية تسعى إلى إعادة توضيب مكانة الفرد في المجتمع ولو بشكل ظرفي مؤقت، وذلك حسب عدة متغيرات ولعل أبرزها؛ حجم الأضحية – فمن منا لم يبادر ولم يتلق ذاك السؤال الشهير حول “ثمن الأضحية”-، ارتداء اللباس التقليدي الجديد، الإقبال على صلاة العيد وتبادل التبريكات مع خصوم الأمس مع تجدد الخصومة بعد أيام العيد ! دون أن ننسى تحضير الولائم الباذخة…
العيد الكبير لدى المغاربة بين التحول والاستمرارية
إن الفاحص لذاكرة العيد الكبير لدى المغاربة خاصة، والمتشابهة مع ذاكرة باقي بلدان المغرب الكبير عموما، سيستنتج بلا شك جملة من التحولات التي مست ثقافة العيد، لكنها تظل بعيدة عن القطيعة ومنسجمة مع النزعة الثقافية التطورية، حيث تشكلت على الدوام فسيفساء ثقافية شبيهة بفسيفساء الزليج المغربي، فرغم تنوع الألوان وتعدد الأزمان تظل المادة الأولية واحدة، وبالتالي فرغم اختلاف بعض الطقوس الثانوية بين مناطق المغرب، ظلت الطقوس الكبرى بارزة وانتهاكها شكل على مر تاريخ العيد انتهاكا “للإيمان الجمعي”.
ننطلق بداية من استعدادات العيد الكبير، ففي السابق كان العيد مناسبة لإعادة تأهيل الدار المغربية وتجهيزاتها البسيطة وأيضا اقتناء ما يحتاجه المطبخ خصوصا، الذي يتحول لمصنع الابتهاج والتنافس في تحضير ولائم اللحم. وقد كان الافتقاد إلى جهاز التبريد “الثلاجة”، عاملا حاسما جعل من العيد احتفالا غذائيا بامتياز، وترجمة لما ورد عن السلف في تقسيم الأضحية، ويعني ذلك التصدق بالثلث للمساكين وبإهداء الثلث على شكل ولائم للأقارب واكتفاء الأسرة بالثلث، وبالتالي أكسب هذا المعطى معنا خاصا “للترف الغذائي” الذي يتخذ صيغة تبادلية أي التبادل المتواصل للولائم والزيارات بين الجيران والأقارب، في احتفالية سريالية ترفض العودة للحياة اليومية والتخلي عن مطبخ العيد وذوبان الحدود بين الأنا والآخر.
ساهم النظام الغذائي المغاربي عموما وليس المغربي فقط، والمعروف تاريخيا بنزعته النباتية، في جعل العيد الكبير مناسبة استثنائية لتفريغ النزعة الغذائية الحيوانية وتعويض الحرمان من اللحوم الحمراء، الذي كان يرتبط استهلاكها بفترات معروفة ومناسبات معينة، لا تخرج في الغالب عن عشاء السوق الأسبوعي، والموائد الطارئة المرتبطة ببروتكول استقبال الضيوف الكبار “ثقافة الذبح على شرف الضيوف”، وأيضا المناسبات الاحتفالية الجماعية كالأعراس والولائم وغيرهما. لذلك كانت هناك رغبة جامحة في تناول اللحوم الحمراء، تتقوى هذه الرغبة وتزداد وطأتها وشرعيتها، بفضل المصوغ الديني المتمثل في “شعيرة النحر”.
منذ مطلع الألفية الثالثة شهد العيد الكبير تحولات عميقة، ولعل أبرزها تلك المرتبطة بالقدرة الهائلة على تخزين لحوم الأضحية بفضل امتلاك أجهزة التبريد والتجميد، حيث تلجأ الكثير من الأسر المغربية لاقتناء مجمد يستخدم حصرا لتخزين لحوم العيد أو لحوم المناسبات كالأعراس وغيرها. وهكذا تحول ثلث التصدق بالخصوص، من بطون الفقراء إلى بطون أجهزة التبريد، يضمن هذا الإجراء التخلص من كلفة شراء اللحوم لمدة تتراوح بين أسبوعين وستة أسابيع على أكثر تقدير بالنسبة للطبقات الهشة. أما إذا ذهبنا مرة أخرى للمجتمع اليمني المحافظ، فنجد أن ما كنا نعيشه نحن المغاربة في الماضي، حيث تُستهلك لحوم الأضحية في يومها، هو بالضبط ما تحافظ عليه الأسر اليمنية، التي تعتقد أن الاستهلاك الفوري للحم الأغنام ضرورة صحية، لأن التخزين يقلل من جودة اللحوم وقيمتها الغذائية، والأكثر من ذلك هو أن الأسر الممتدة باليمن لا تجد حرجا في نحر الأضحية الثانية مثلا خلال اليوم الثاني أو حتى الثالث باعتبارها أيام التشريق، على عكسنا نحن المغاربة حيث الكل في سباق مع الزمن، لنحر ما يمكن نحره صبيحة العيد، ما دامت إمكانية التخزين مضمونة، ومن تم المرور صوب المرحلة الموالية من مراحل الاحتفال، ويتعلق الأمر بتبادل الزيارات وارتياد المقاهي… وربما يعود هذا الاختلاف إلى “رسملة الزمن” لدينا نحن المغاربة، والمندمجين طبعا في دائرة العولمة التي لا تعترف بالهويات المحلية، هكذا ينطلق سفرنا الهوياتي في سباق مع “الزمن الرأسمالي”، كأنه حلم سريالي سرعان ما يتبخر على وقع التزامات وتكاليف الحياة.
شهد الإقبال على “ولائم العيد” نوع من التراجع والتحول أيضا، نتيجة تنامي التشبع بقيم الفردانية، حيث تفضل الكثير من الأسر الانغلاق على ذاتها والاستمتاع بلحومها لوحدها وفي أفضل الحالات، الانفتاح فقط على الإخوة والأخوات، في تنظيم ولائم باذخة للتفاخر وإثبات علو كعب النساء الطابخات. دون أن ننسى أيضا ازدهار الولائم البرغماتية، إذ يعد العيد أفضل المناسبات المبررة لتعزيز العلاقات وتكثيف الشبكات الاجتماعية والرفع من مستواها، من خلال الانفتاح أكثر على من يمتلك القوة ومعنى القوة هنا هو ما يمكن للفرد أن يقدمه من خدمات لشركائه في الشبكة الاجتماعية نفسها.
يتم تسويق الكثير من ولائم المغاربة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، في محاولة لانتزاع الاعتراف بالإبداع الغذائي وبالكرم المغربي، ومن ثمة انتزاع المكانة التي تليق باحتفالية العيد. وتجدر الإشارة إلى أن التسويق الإلكتروني لا يمس فقط الموائد، بل قبل ذلك “ألبسة العيد” التي تغزوا شبكات التواصل الاجتماعي أيضا، ولا شك أن الجميع يفكر بنوع من الترفع الماكر، من خلال تسويق صور الأطفال، والتي تقدم كعينة لاحتفالية اللباس لدى الأسر، فكلما كان لباس الأطفال أنيقا وتقليديا كلما أشعر ذلك الأم بل وحتى الأب بنوع من الإشباع والرضا، وبالتالي تتحقق المكانة المنتظرة والتي تُستمد طبعا من المشاركة الوازنة في احتفالية العيد. يشمل التسويق الإلكتروني أيضا إرسال صور مشفرة للآخر، غالبا ما تعبر عن البعد الديني للعيد، وهي صور الإقبال على صلاة العيد، تلك الصور هي بمثابة صكوك غفران، تجعل من المهمش المنسي مندمجا في مجتمعه المحلي، وتشعره بقيمة المساواة وبالتالي بمكانته في المجتمع.
يعبر العيد الكبير في عمقه عن صراع اجتماعي خفي، الانتصار فيه لا يتعدى البعد الرمزي أي نشوة رمزية عابرة. أما الامتناع عن ممارسة طقوسه وعلى رأسها النحر، فينزل بالفرد إلى مكانة دنيا وبالتالي فاختيار الفرد للامتناع هو اختيار للانعزال الاجتماعي وتقبل للعيش المؤقت على هامش الجماعة، التي يمكن أن تعيد تصنيف أفرادها وتتلاعب بمزاجية مفرطة بما يمكن أن نسميه “ميزان المكانة” كفة ترتفع وأخرى تنزل، وأثناء نزولها تُطلق وصما اجتماعيا قاسيا، تُجاه الممتنع عن الاحتفال الجماعي، فلا غرابة أن يُنعت “بالجيعان- الشحيح” إن امتلك القدرة وامتنع أو حتى “الكافر بالله” من بعض الأفواه المتطرفة، أما من لم يمتلك القدرة فيُنعت “بالمسكين” وطبعا المقصود هنا “الأقل شأنا – مكانة”.
انطلاقا مما سبق يمكن اعتبار الامتناع عن “نحر الأضحية” هو امتناع عن احتفالية العيد، وهو أيضا خوف من وصم اجتماعي متداول يطارد كل من سولت له إرادته الخروج عن إرادة – طاعة الجماعة. فمن منا يتقبل أن يكون مهمشا وهامشيا ولو على المستوى الرمزي؟ من منا يتحمل شعور النقص ولو كان مزيفا وعابرا تُجاه الآخر؟ بل الجميع يُفضل أن يقول أنا موجود هنا، فكأن لسان المغاربة يقول قياسا بقول الفيلسوف ديكارت “أنا أذبح إذن أنا موجود”. وبالتالي فالعيد الكبير يشكل مناسبة للاحتفال كما يشكل أيضا مناسبة للتعبير عن الاندماج الاجتماعي وتحقق المساواة بين الأفراد ولو رمزيا، فالعيد بمثابة عرس للمساواة، لذلك فهو يُحدث زلزالا قويا في مكانة الأفراد، لكنه عبارة عن هزات عابرة سرعان ما تُنسى بعد عودة الاستقرار الاجتماعي، وتتجلى حينها المكانة الحقيقية للأفراد والتي تُستمد بلا شك من المكانة الاقتصادية أولا وقبل كل شيء.
اقتصاد العيد.. فرص الربح والخسارة
يتحدث البعض ببساطة عن إلغاء “شعيرة النحر بالمغرب” -وطبعا ليس إلغاء العيد- مبررين “رأي الإلغاء هذا” بأزمة الجفاف وتبعاتها، لكن هؤلاء ينسون أن إلغاء النحر هو في حد ذاته إلغاء لاحتفالية العيد برمتها، وبشكل دقيق إلغاء لاقتصاد العيد وما يتيحه من فرص معتبرة للرواج الاقتصادي، وطبعا يتحجج هؤلاء بكون هذا الإجراء كان مألوفا في الماضي. ولكن ألم يتساءل هؤلاء؛ هل مغرب اليوم هو مغرب الأمس؟ الجواب طبعا بالنفي، فمغربنا الآن أكثر انفتاحا على اقتصاد السوق، وأكثر انخراطا في النظام الاقتصادي الدولي، وبالتالي لا بد من استحضار الخلفية الاقتصادية لكل إجراء سواء كان دينيا أو اجتماعيا أو حتى سياسيا، ويعني ذلك بالنسبة للعيد الكبير استحضار معادلة الربح والخسارة.
يختلف عيد القرن الحالي عن عيد القرن الماضي، تماما كاختلاف مستوى معيشة ونمط إنفاق المغاربة، ففي السابق إلغاء شعيرة “نحر الأضحية”، كان إجراء بسيطا، والبساطة مستمدة من بساطة الحياة والإنفاق وأيضا من بساطة الاحتفال، لكن ما يميز حياتنا اليوم هو التعقيد اللامتناهي والسعي الدائم إلى الاستهلاك بمختلف أشكاله فلا شيء يشبع رغباتنا الاستهلاكية سوى المزيد من الاستهلاك. وفي هذا السياق تجب الإشارة إلى عامل أساسي يجعل من نحر الأضحية اضطرارا وليس اختيارا، ويتعلق الأمر بنضج التحديث الفلاحي على مستوى تربية الماشية، حيث برز فاعلون جدد لكنهم كبار كبر العيد، إنهم الفلاحون أو “الكسابة” كما يمكن تسميتهم، المتخصصين في تسمين الأكباش، ولأن إقبال المغاربة على لحوم الأغنام ضعيف جدا على مدار السنة، إذ يفضل الجميع استهلاك لحوم الأبقار، فلا سبيل لتسويق الأكباش المسمنة سوى العيد الكبير. وحري بنا أن نشير إلى أن الأمر لا يقتصر على هذه الفئة، بل هناك فئة أخرى لها وزنها ومكانتها الاقتصادية، ويتعلق الأمر بالفلاحين الذين يمارسون تربية طليقة للماشية في المناطق الجبلية والسهبية، فهم كذلك ينتظرون العيد بشغف لتجديد ميزانيتهم السنوية وتسديد ديونهم وتدبير شؤون معيشتهم، وبالتالي فشعيرة النحر تتجاوز ما هو ديني إلى ما هو اقتصادي محض، وبفضلها تستمر التوازنات الماكرو-اقتصادية بالبوادي المغربية، لهذا اتخاذ الهيئات الوصية إجراء استيراد الأكباش، لحل مشكلة نقص الأضاحي، هو إجراء ضروري وفيه ما فيه من الربح للجميع، أما الإلغاء ففيه إضرار بالاقتصاد الفلاحي عموما.
انطلاقا مما سبق يشكل العيد فرصة اقتصادية هامة للفلاح المغربي، سواء الفلاح الصغير أو الفلاح الكبير، كلاهما ينتظران العيد. إلى جانب فئة الفلاحين هناك فئات كثيرة تنتظر العيد ورواجه الاقتصادي، ومن أبرز هؤلاء تجار الألبسة والأقمشة، وحرفيو الخياطة التقليدية والحلويات، وأيضا أصحاب مهن العيد من بائعي الفحم وأدوات العيد دون أن ننسى ممتهني الجزارة… فئات كثيرة تنتظر الفرص الاقتصادية الهائلة التي يضمنها نحر الأضاحي، وهي طبعا الفئات التي تخرج رابحة من العيد الكبير.
مقابل الربح هناك الخسارة، التي تتخذ نمطا إنفاقيا بامتياز، إذ تُحتم احتفالية العيد الالتزام بالبرتوكول الاجتماعي للاستهلاك، فلا مفر من شراء مستلزمات العيد وقبل ذلك لا مفر من شراء ألبسة للأطفال وخياطة النساء لقفطان تقليدي جديد، فحرمان المرأة من قفطان جديد يضمر في حد ذاته، احتفالا ناقصا ومكانة أدنى بين النساء. لا مفر أيضا من تخزين الكثير من الخضر والفواكه وهي عادة مألوفة لدى المغاربة، كأن نضج الخضروات والفواكه سيتوقف خلال أيام العيد! وبالتالي نحن أمام دفعة إنفاق لها وزنها، ولا شك تثقل كاهل الأسر المغربية سنويا، خصوصا وأن العيد الكبير يصادف فصل الصيف، الذي يتميز بإقبال متزايد للمغاربة على ممارسة السياحة الداخلية والتي انتقلت هي أيضا من مستوى الكماليات إلى مستوى الضروريات، يُختم فصل الصيف بالدخول المدرسي ونعلم جيدا الكلفة الثقيلة للدخول المدرسي التي تزداد بتزايد إقبال الأسر المغربية على تعليم أبنائها بالمؤسسات الخاصة.
على الرغم من تباين كفتي الربح والخسارة بين أفراد المجتمع المغربي، يتذوق الجميع النشوة السيكولوجية المميزة لطقوس العيد الكبير، الذي باستطاعته تجميد الزمن على الدوام، ولعل عبارة “تعيد وتعاود أو تعيد بشي رزيق” أو غيرهما من العبارات الشعبية المألوفة أو حتى العبارات الافتراضية الفصيحة العابرة للأفراد، تعبير صريح على جمود زمن العيد، لكونها تتكرر في مستهل كل عيد جديد، لا يمل أحد من قولها أومن سماعها أو من إرسالها عشوائيا لكل الأرقام. يساهم العيد أيضا في تخدير الآلام الفردية والأسرية وحتى الوطنية (أزمة الغلاء مثلا) لمدة زمنية تكفي لتجديد طاقة الصبر والتحمل، خصوصا وأنه يذكر الإنسان المغربي بأهمية الإيمان كمنهج للحياة، كيف لا وشعيرة النحر نفسها مستوحاة من الإيمان المطلق بالقصة القرآنية لنبي الله إبراهيم عليه السلام، القصة المليئة بعبر الطاعة والصدق في النية والعمل والصبر والتضحية، هكذا يعتقد الفرد جازما بإمكانية حلول السعادة بدل التعاسة، والشفاء بدل الاعتلال، فليس هناك مستحيل أمام قاموس “تهاني وتبريكات” العيد، رغم أن هذا السعي نحو المستحيل عادة ما ينكسر في أول ارتطام بصخرة الواقع المؤلم.
هكذا إذن، يتجاوز الربح ما هو مرئي أو اقتصادي، إلى ما هو أعمق وأكبر، فكما يساهم العيد الكبير في تعديل نظرة الفرد للآخر والمجتمع وللحياة أيضا ولو بشكل مؤقت، يساهم أيضا في الحفاظ على روح الجماعة والهوية الوطنية المشتركة، ولو أن تحقق هذه الغاية يغلف بتناقضات لا حصر لها، ويساهم أيضا في تأخير تشبع الأفراد بقيم الفردانية المختلف حول جدواها! وبالتالي يشكل العيد الكبير تمرينا سنويا للمغاربة على “التعاضد الجديد” والذي يتخذ في بعض الأحيان معنى يتناقض مع جوهر العيد، وقبل كل ذلك يساهم العيد الكبير في الحفاظ على السلم الاجتماعي.
لماذا لا نتساءل في الختام؛ هل نمتلك حقا حياتنا وما يرتبط بها من اختيارات وقرارات؟ لماذا يصر الجميع على أن يكونوا نسخا طبق الأصل للجميع ذاته؟ وهل نحن أحرار حقا أم فقط نتوهم الحرية؟ وإلى متى سنخضع لسلطة المجتمع بغض النظر عن وجاهتها أو جهالتها؟