أخبار العالم

حوار العلوم الإنسانية عن الكراهية والتدمير


أحمد المطيليالأحد 25 يونيو 2023 – 10:42

عقدت الجمعية المغربية للأخصائيين النفسانيين الإكلينيكيين صبيحة يوم 8 يونيو الجاري ندوة في موضوع “حوار العلوم الإنسانية حول الكراهية والتدمير”. وقد نظمت الندوة بالشراكة مع جامعة السربون (شمال باريس) وجامعة محمد الخامس بالرباط. وبعد الافتتاح الرسمي من قبل عميد الكلية ورئيس مسلك علم النفس ونائب رئيسة الجمعية لفعاليات الندوة، بدأت ضيفة الندوة حورية عبد الواحد، الأستاذة بجامعة السربون (شمال باريس) حديثها عن خبرتها العيادية مع عدد من النساء اللواتي عانين أهوال الحرب في سوريا وما خلفته في أنفسهن وأجسادهن من جروح لا تلتئم. وقد حرصت على أن تعنون كتابها بـ”في مواجهة الدمار. التحليل النفسي زمن الحرب”، إظهارا لفضل هذه المقاربة في تحليل مظاهر الكراهية والعنف والتدمير ودوافعها وتبعاتها مستعينة في ذلك بمفهوم “نزعة الموت” الذي صاغه سيغموند فرويد سنة 1920. وفي ضوء هذه النظرية سعت الكاتبة لتحليل أبعاد مفهومي “الفتنة” و”الاغتصاب” كما ورد في معاجم اللغة العربية.

وتحدث أستاذ الفلسفة عبد الصمد تمورو عن “الأشكال الجديدة للحكمة” في مواجهة استشراء الحروب الطاحنة التي اندلعت طوال القرن المنصرم واشتدت في الفترة الراهنة في أكثر من بلد. ودعا إلى “حوار بين مختلف الثقافات” على الصعيد الكوني ردا على الكراهية المتنامية بين الشعوب. وقد عرضت كنزة الناجي وماريا أوشلح، أستاذتا علم النفس المرضي والعيادي بالكلية، فصول الكتاب مع التركيز على بعض الجوانب المتصلة بنزعة التدمير أو بالاعتماد على بعض المفاهيم المناظرة له مثل مفهوم “الفتنة” كما فعلت الأستاذة كنزة الناجي اعتمادا على عبد الرحمن بن خلدون.

لقد أحسنت الجمعية المغربية للأخصائيين النفسانيين العياديين اختيارها لموضوع اليوم الدراسي ونجحت في شد انتباه الجمهور الحاشد من الطلبة والباحثين وعدد من أساتذة الجامعات والنفسانيين الذين تقاطروا على مدرج ابن خلدون من مختلف مدن المغرب للمشاركة في الندوة والتناظر مع الأساتذة المحاضرين. فلهم منا كل تقدير وإعزاز على ما بذله أعضاء اللجنة المنظمة من جهد وما أنفقوه من وقت. لكن الوقت المخصص للمناقشة للأسف الشديد لم يكن ليسعف المشاركين التواقين إلى الإدلاء بدلائهم ولا سيما الطلبة الباحثون. بل أبى مسير الجلسة إلا أن يحصر التدخلات في صيغة السؤال والجواب لدقائق بل لثوان معدودة! هذا مع أن طبيعة الموضوع ومقتضى الشراكة مع الجامعة الفرنسية تستدعي أن يرقى اليوم الدراسي المعلن عنه إلى تناظر جدير بهذا الاسم حتى يكون مفخرة للجامعة المستضيفة بدل أن يؤول إلى مجرد استعراض للمعلومات بالمعنى المدرسي المعهود فتضيع سبل الحوار والتفاعل والتناظر. فهل كان حوارا حقا؟

لا ريب أن المتتبع لوقائع الندوة قد استشعر ما استشعرته بنفسي من خيبة أمل في نوع التدخلات المبرمجة وتنظيم الوقت. فقد خصصت ساعتان وعشر دقائق للعروض لقاء 43 دقيقة للجمهور الغفير المحتشد على جنبات المدرج الفسيح. هذا مع أن الإعلان عن الندوة كان بصيغة اليوم الدراسي لا بالصبيحة. فلِمَ الإعراض عن الجمهور والتضييق عليه في التعقيب والاستدراك وتعميق النظر في الجوانب التي أغفلها المتدخلون؟ وأي حوار للعلوم الإنسانية إذا كانت العروض الثلاثة مخصصة بكاملها لمقاربة التحليل النفسي وعرض واحد للمقاربة الفلسفية؟ فأين بقية العلوم الإنسانية الأخرى وفي مقدمتها علم الاجتماع وعلم الإناسة والتاريخ والجغراسية؟

على أن العرضين اللذين خصت بهما أستاذتا علم النفس المرضي والعيادي كتاب ضيفة الندوة فلم يخرجا عن مقاربة التحليل النفسي الفرويدي، وهي المقاربة التقليدية التي تدير ظهرها للامتداد الواسع لهذه المدرسة فيما دعي بالفرويدية الجديدة. بل اقتصرت المقاربتان على تقريض لمحتوى الكتاب دونما حس نقدي لخلفياته النظرية والمنهجية وللمفاهيم الواردة فيه مثل مفهوم “نزعة الموت” إلا قليلا. فمن المعلوم أن هذا المفهوم ما فتئ يثير النقد والاعتراض في أوساط المحللين النفسيين أنفسهم. وفي مقدمة هؤلاء إيريك فرويد الذي اقترح مفهوم “هوى التدمير” بدل مفهوم “نزعة الموت”، فقد ارتأى أن معالجة جديرة باستيفاء قضية التدمير حقها من البحث والتنقيب لا ينبغي أن يُقتصر فيها على ميدان بعينه كالتحليل النفسي بل لا بد من الحوار مع بقية العلوم الأخرى مثل علم وظائف الأعضاء العصبي وعلم النفس الحيواني وعلم الإناسة وعلم الإحاثة. وعنده أن مفهوم “نزعة الموت” مفهوم ينم عن فهم “فسلجي” يَقصُر عن استيعاب “الأهواء” المتأصلة في الاحتياجات الوجودية الخاصة بالإنسان بوصفه إنسانا. وشتان بين مفهوم “نزعة الموت” الذي ينحو منحا قدريا ومفهوم “هوى التدمير” الذي يحمل التدمير على محمل الاختيار لا الجبر! ثم إن المفهوم الفرويدي المذكور لا يسمح بالتمييز بين ما يسميه بـ”العدوانية الحميدة” التي يسخرها الإنسان في موقع الدفاع عن النفس والعدوانية “الضارة” التي تتغيى القسوة والتدمير والقتل.. وفضلا عن ذلك فقد تضمن الكتاب مغالطات كثيرة وأحكاما مغرضة تنم عن رؤية مبتسرة وتحامل لا يحتمل. وهو لذلك يستأهل وقفة نقدية للرد على الشبهات الكثيرة التي حفل بها بكل نزاهة وتجرد بعيدا عن الأفكار النمطية والأحكام المسبقة عن الإسلام دينا وثقافة وحضارة ومجتمعا.

وعلى الجملة فقد كان اليوم الدراسي فرصة لا تعوض لتدارس قضية الكراهية والتدمير لو لم يتحول إلى صبيحة بأصوات متشابهة افتقرت إلى الحس النقدي والتكامل المنهجي. وبذلك أخلفت الندوة موعدها مع العلوم الإنسانية في تعددها وشمولها وسعتها ورحابتها. فهل تستدرك الجمعية الأمر في الندوات القادمة فتوسع دائرة الحوار وتفتح باب الاجتهاد والتجديد والتعدد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى