لماذا يصعب على بعض النساء الإبلاغ عن المضايقات في العمل؟
عملت ديان في شركة برمجيات في نيويورك لنحو ست سنوات. في أول عامين، كانت سعيدة بوظيفتها. ثم تم تعيين مدير جديد وتغيرت الأمور.
توضح ديان، 37 عاماً، التي تعرف عن نفسها بأنها أمريكية آسيوية: “كان من الواضح منذ البداية أنه لا يحبني”. وأضافت: “كان يطلب مني القيام بمهام لم تكن بشكل موضوعي ضمن راتبي. ثم كان ينتقدني أمام زملائي ويتهمني بعدم اتباع التعليمات، على الرغم من أنني كنت أفعل”.
وتقول ديان، إنه في مرحلة ما، بدأ مديرها يسخر منها أمام أعضاء فريقها “على كل شيء”، بدءاً مما تتناوله على الغداء، إلى الأخطاء المطبعية العرضية في رسالة بريد إلكتروني.
لا تزال ديان تعمل اليوم مع المدير نفسه. على الرغم من أنها تقول إن الأمور قد تحسنت قليلاً، وهو ما تنسبه إلى الفريق الذي أضاف بعض المدراء في الوسط، إلا أنها تقول إنها لا تزال تشعر “بالمضايقة”.
ومع ذلك، فهي لم تبلغ عن سلوكه إلى مدير الموارد البشرية أو مسؤول بمنصب أعلى. وتشرح قائلة: “أشعر أن هذا سيجعل الأمور أسوأ. إن الشكوى لن تجعلهم يتخلصون منه لأنه يحظى باحترام كبير في الشركة وهو جيد في وظيفته”. وأضافت: “وسيعني ذلك أنه سيكون عليّ العيش مع سمعة أنني شخصاً لا يتلقى مزحة، أو شخصاً يريد إلغاء الآخرين، وهذا بالتأكيد ليس شيئاً أريده”.
وتقول ديان إنها لا تريد الإبلاغ عن مديرها، ولا سيما في هذه اللحظة. وتعتبر أن سوق العمل صعب ولا تريد “المجازفة بأن أكون في مكان يتعين علي فيه، أو حتى أرغب بشدة فيه العمل في مكان مختلف”.
تُظهر البيانات العالمية أن المضايقة في مكان العمل والتي تتضمن أفعالاً مثل التقديمات الجنسية المستمرة غير المرغوب فيها أو، كما في حالة ديان، التنمر، هو فعل تتعرض له النساء والأقليات بشكل غير متناسب.
وفي الواقع، تُظهر أرقام العام 2023 من تقرير “ديلوات” السنوي للنساء في مجال العمل، أن حوالي 44٪ من النساء في استطلاع شمل 5000 امرأة في 10 دول، قلن إنهن تعرضن للمضايقة (التنمر) أو التحرش الجنسي أو للاعتداءات الصغيرة أو كليهما في مكان العمل خلال العام السابق.
ولكن في حين أن نتيجة الإحصاءات في حد ذاتها مثيرة للقلق، ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن نسبة النساء اللواتي تعرضن للمضايقة أو التحرش الجنسي ولكنهن اخترن عدم الإبلاغ عنه مرتفعة، وربما في تزايد.
إذ وجد باحثو شركة “ديلوات” أن 59٪ فقط من النساء اللواتي قلن أنهن تعرضن للمضايقة أو التحرش أبلغن صاحب العمل بالحوادث، بانخفاض عن 66٪ في استطلاع العام السابق.
وقالت إيما كود، مديرة الدمج العالمي في شركة “ديلوات”، ومقرها في المملكة المتحدة: “هذا انخفاض مقلق، لأنه يكشف أن الكثير من النساء لا يشعرن بالراحة في الإبلاغ عن المضايقة أو التحرش، والنسبة آخذة في الازدياد”.
ويقول الخبراء في المجالات القانونية والأكاديمية والموارد البشرية أن أسباب الانخفاض في التقارير من المحتمل أن تكون نتيجة لمجموعة من العوامل تتراوح من الخوف من الانتقام إلى الإحساس بأن السلوك أو الإجراءات قد لا تكون خطيرة بما يكفي لتبرير التقرير.
ويقول بعض الخبراء إن عدد أولئك الذين لم يبلغوا عن المضايقة أو التحرش يمكن أن يتزايد بسبب التوقعات الاقتصادية الحالية غير المستقرة وعدم استقرار سوق العمل، وهما عاملان أثرا تقليدياً بشكل غير متناسب على النساء العاملات.
إذ تشير كود إلى أن حوالي خُمس النساء اللواتي تعرضن للمضايقة أو التحرش في العمل، لكنهن قررن عدم الإبلاغ عن ذلك، قلن إن قرارهن كان مدفوعاً بالقلق من أن الإبلاغ عن السلوك سيؤثر سلباً على مسار حياتهن المهنية.
لكن الخبراء يتفقون أيضاً على أن عدم الإبلاغ عن المضايقة أو التحرش، كما عدم إنشاء بيئة عمل تشعر فيها النساء بالراحة والثقة للإبلاغ عن السلوك الإشكالي، لن يؤدي إلا إلى تفاقم المشكلة.
وإذا أصبح المشهد الاقتصادي أكثر غموضاً، فقد تجد النساء أنفسهن في مأزق مزدوج: الشعور بالحاجة إلى التزام الصمت بشأن السلوك غير المناسب في مكان العمل، مع القلق أيضاً بشأن خسارتهن لوظيفيتهن وتقدمهن الوظيفي.
وهذا بدوره يمكن أن يرسخ ثقافة الصمت في المستقبل ويخلق المزيد من الحواجز أمام النساء اللواتي يحاولن التقدم في حياتهن المهنية.
حتى قبل الوباء، أظهرت البيانات أن النساء يواجهن حواجز مهنية أعلى في مكان العمل من نظرائهن من الرجال.
وجد الباحثون أن أجور النساء ترتفع بمعدل أبطأ من الرجال وكانت حظوظ النساء في الترقية تاريخياً أقل من الرجال. كما أنهن أكثر عرضة لتلقي عقوبة أشد من الرجال بسبب الزلات وسوء السلوك. ووجدت إحدى الأوراق البحثية المنشورة في “هارفارد بيزنس ريفيو” أن المستشارات الماليات كن أكثر عرضة بنسبة 20٪ لفقدان وظائفهن، مقارنة بالمستشارين الذكور، عندما ارتكبوا “حادثة سوء سلوك” مثل الخرق التنظيمي، على سبيل المثال. ووجدت الدراسة أن احتمال عثور النساء على وظائف جديدة أقل بنسبة 30٪ بعد سوء السلوك.
وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، كان من الصعب على النساء التقدم في سوق العمل. إذ أدى كوفيد-19 إلى فقدان وظائف بمستوى غير متناسب للنساء وعلى الرغم من أن معدلات التوظيف عادت في الغالب إلى مستويات ما قبل الوباء في بلدان مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إلا أن النساء لا زلن يملن الى التمثيل الزائد في الوظائف والصناعات الأكثر عرضة للإصابة الصدمات الاقتصادية، مثل خدمات البيع بالتجزئة والمواد الغذائية. وهن أكثر عرضة للتوتر والقلق والإرهاق أيضاً.
ويقول الخبراء الآن أنه من المحتمل أن يثني هذا الشعور المتزايد بعدم الأمان النساء أكثر من أي وقت مضى عن التحدث علناً عن المضايقة والتحرش في مكان العمل.
وأظهرت ورقة بحثية أعدتها في العام 2019، كلوي غريس هارت، وهي أستاذة مساعدة في علم الاجتماع في جامعة ويسكونسن ماديسون، أنه عندما تبلغ امرأة عن تجربة تحرش جنسي، يمكن أن يعرضها ذلك إلى الإحساس بأنها غير جديرة بالترقية. وتقول هارت: “إذا افترضنا أن النساء يشعرن بذلك، وقد أجريت مقابلات مع النساء اللواتي يشعرن بذلك بالفعل، فمن المنطقي أنهن سيكنّ أكثر تردداً في الإبلاغ عن التحرش الجنسي إذا كن قلقات بشأن أمنهن الوظيفي”.
وتقول سارة راسل، محامية التوظيف في مانشستر بالمملكة المتحدة، إن النساء في مواقف وظيفية معينة قد لا يبلغن عن التحرش وسوء المعاملة. وتشير الى أن النساء اللواتي لديهن وظائف منخفضة الأجر، أو اللواتي يعملن بعقود صفرية، وهي الترتيبات التي لا يكون صاحب العمل ملزماً فيها بتوفير الحد الأدنى من ساعات العمل للموظف، معرضات بشكل خاص للالتزام الصمت.
وتقول راسل: “الهشاشة المالية تترجم إلى هشاشة جنسية”، والضعف المالي واضح بشكل خاص عندما يكون الاقتصاد غير مؤكد، أو عندما تكون هناك صدمات أخرى، مثل الوباء العالمي.
في المملكة المتحدة، حيث يقع مقر راسل، أدى التضخم المرتفع إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى أعلى مستوى لها منذ 45 عاماً، مما أدى إلى أزمة معيشية.
وتقول: “النساء اللواتي أراهن واللواتي يشتكين من المضايقة أو التحرش في مكان العمل عادة ما يتم وصفهنّ بأنهن عصابيات أو غير مستقرات ذهنياً أو لا يمكن الوثوق بهن، ويتم مهاجمتهن وتهميشهن من قبل زملائهن”. وهن أيضاً في كثير من الأحيان في وضع مالي غير مستقر.
من جهتها، اختارت جو، وهي مديرة تسويق تبلغ من العمر 40 عاماً وتعيش في لندن، عدم الإبلاغ عن التنمر الذي تقول إنها تحملته في العمل. وتقول: “لقد بدأ الأمر قبل فترة من الوباء. كانت في الغالب تعليقات دنيئة، كان تم استبعادها من الاجتماعات والمناسبات الاجتماعية والأشياء من هذا القبيل. لم أكن أرغب في الإبلاغ عن ذلك، لأن المردود الإيجابي لفعل ذلك بالنسبة لي سيكون بسيطاً فيما قد تكون مخاطر التبليغ عن ذلك كبيرة “.
لم ترغب في إثارة القضية إذا كان ذلك سيعني المخاطرة بمزيد من التهميش في العمل، أو حتى إنهاء العمل، على الرغم من أن ذلك سيكون غير قانوني إذا تم القيام به في انتقام مباشر من إبلاغها عن المضايقة. وتضيف: “وبعد ذلك عندما حدث الوباء وكان هناك الكثير من عدم اليقين وتم التخلي عن وظائف بعض الأشخاص، ولم أكن مستعدة بشكل خاص لوضع رقبتي على المحك”.
تقول كل من جو وديان أنهما تعتقدان أنه من المهم التكلم عن المضايقة والتحرش والسلوك السيئ في العمل وعلى حد تعبير ديان يجب “كسر حلقة السمية”. ولكن في هذه البيئة الحالية، لا أحد منهما مستعدة للقيام بذلك.
وتقول جو: “إلى أن نتمكن من إنشاء بيئات عمل يشعر فيها الأشخاص بالراحة في التحدث دون التعرض لخطر العواقب، فسيكون الأشخاص السيئون قادرين على الاستمرار في فعل ما يفعلونه”.
وتقول كود من “ديلوات” إن الشركات يجب أن تعمل على خلق ثقافة احترام شاملة؛ ثقافة يشعر فيها الموظفون بالراحة عند الإبلاغ عن المضايقة والتحرش. وتقول: “يجب أن يعرف الموظفون أنه سيتم أخذهم على محمل الجد وأن أي قضايا سيتم التعامل معها بشكل مناسب من قبل صاحب العمل”.