أخبار العالم

بنعبد العالي يزيح الستار عن “بريكولاج”



بعنوان “بريكولاج”، صدر أحدث كتب الشذرات الفلسفية للأكاديمي المغربي عبد السلام بنعبد العالي عن منشورات المتوسط-إيطاليا.

يرى بنعبد العالي ألا لفظَ أكثر ملاءمة لوصف طبيعة ما يشتغل عليه، بما يطبعه من شتات، من لفظ “بريكولاج”، ويقول شارحا: “لا أحمّل لفظ بريكولاج أيّ معنى انتقاصي. فلا يتعلق الأمر مطلقا بقياس انشغال فلسفي يتّسم بالتلفيق والترميق على كتابة تتسم بالحبك والانتظام والإتقان. أستعمل لفظ بريكولور في المعنى الذي يستعمله به كلود ليفي-ستروس حينما يجعله في كتاب الفكر المتوحش مقابلا للمهندس.”

ويتابع: “بينما يتمكن المهندس من بناء كلّي تركيبا ودلالات، وبينما يشكل الذّات الفاعلة التي هي المصدر المطلق لمنتوجها الذي تستطيع أن تبنيَه وتتيقّن منه قطعة قطعة لكونها تقيمه على منهج، وتبنيه وفق قواعد، وتسنده إلى معيار، فإن البريكولور لا ينطلق من الطبائع البسيطة التي ينتهي إليها التحليل الديكارتي، والتي يدركها العقل بداهة، وإنّما مما يتوفر له من أدوات، وما يقع تحت يديه من وسائل لم تكن مهيّأة بالضرورة كي تستخدم من أجل العملية التي يستخدمها فيها، والتي يتحايل لتكييفها معها، وهي وسائل وأدوات يكون على أتمّ استعداد لهجرها والتخلّي عنها إن تبدّى أن أدوات أخرى أكثر منها ملاءمة.”

إذن، “في البريكولاج لا يذهب الفرد بعيدا، بل يتأقلم مع ما يتوفر له كي يخوض غمار البحث، ويتفاعل مع تحولات المعطى ومخاض الكتابة، إن لم نقل غمار الحياة ذاتها”، بل إن “البريكولور لا يركن إلى معيار ولا يعوّل على سند. فلا تخطيطات ولا مفاضلات. والأدهى من ذلك، لا تعلّق بمستقبل واعد. فالأحلام والمشاريع لا معنى لها هنا إن لم تجد تحقّقها المباشر، أي بالضبط إن لم تعد أحلاما ومشاريع. مفاهيم كالأفق والانتظار والمشروع لا محل لها هنا. ما يتبقى للفرد هو أن “يدبّر حاله”، و”يخترع” ذاته، لكن لا استنادا إلى مرجع، واقتداء بنموذج، وإنّما باستعمال ما يتوفّر، وما يوجد “تحت” اليد، وليس ” فوق”، لا فوق اليد ولا فوق الواقع. فما من تعال.”

ويرى بنعبد العالي أن “هذا البريكولاج” لا يقتصر على إنتاجه بل “يمتدّ حتى ما كان ربما بالنسبة لجيلي تلقّيا”، ويزيد: “ربما لن أكون مغاليا لو قلت إن الجيل الذي أنتمي إليه تلقّى الفلسفة بطريقة لا تخلو من بريكولاج. يتّضح ذلك إن نحن دقّقنا النّظر في مسار كل فرد منه وتنوّعِ اهتماماته، وصولا إلى اختيار موضوعات بحثه، والاستعانة بأساتذته. لقد كانت الحياة الدراسية لذلك الجيل تتحدّد أساسا بـ “ما يتوفر”، قراءةً ودراسة وإشرافا، ولا داعي إلى التذكير أن ما كان يتوفر اتّسم بالمحدودية، تلك المحدودية التي جاهد كل فرد من أفراده بطريقته لتخطيها مساهمة في إرساء فكر فلسفي.”

ويؤكد المفكر أن “كل من يشتغل بالكتابة، رغم أنه يظل ضائعا بـين نتف ما يكتب، تائها بين دروب لا يبدو أنها تتقاطع، فإنه يتّبع، على رغمه، وربما عـن غـير وعي، مسالك تُخَطّ له، ومسارات ترسمها انشغالات اللحظة التاريخية والمعرفية التي يتفاعل معها، بحيث ينتهي به الأمر إلى أن يعمل وفق منطق لا يحيد عنه.”

هذا المنطق “ليس منطق الكاتب، إلا أنّه يظل منطق الكتابة، وسـيقول آخرون “منطق المعنى”. وهو ليـس بالضرورة منطقا مبسّـــطا تسنُّه إرادة متحكّمة، إلاّ أنّه، مهما تعدّدت دروبه، وتشابكت أطرافه، فإنه يرسم حدودا، ويحدّد مجالات، ويخلق وحدات”، وهي وحدة “تثوي خلف التشتّت”، أو كما يرى بنعبد العالي، العمل الفكري هو “سعيٌ للاستفراغ وليس للمراكمة”.

ويدافع بنعبد العالي عن نموذج كتابته الفلسفية قائلا: “لا يمكن للفلسفة اليوم أن تكون إلا تفاعلا مع نبضات الحياة المعاصرة بهدف مقاومة ما يسودها من أشكال البلاهـة، لخلق المسافات التي تفصلنا عنها، وهي تستدعي، تبعا لذلك، كتابة أقرب إلى الاستجابة اللحظية لما لا ينفكّ يتجدّد.”

ويواصل: “لعلّ هذا ما جعل كتاباتي أشدّ ميلا إلى تكريس الانفصال الذي يطبع الكائن الحديث، إلى حدّ أنّني أجد دوما كثيرا من الصّعوبة في ضمّها بين دفّتي كتاب واحد يحمل عنوانا بعينه، وغالبا ما أتحايل كي أعثر على عنوان استراتيجي يسع الموضوعات التي أطرقها رغم ما بينها من فروق، على نحو ما يلجأ إليه الشاعر الذي يبحث لقصائده عن عنوان بعد أن تكون قد نُظِمَت جميعها.”

وهنا تبرز فضائل “كل وقفة نقدية”؛ لأنها “تتيح لكل من يشتغل بالكتابة، فرصة الرجوع القهقرى، ليس فحسب لكي يعي المنطق المحايث لكتاباته، ويتبيّن المدار الذي تدور حوله مختلف اهتماماته، ويعاين البؤر التي تبلورت فيها انشغالاته، وإنّما، وهذا هو الأهمّ، لما تتيحه له من تبيّن الإشكالات التي سعى جهده إلى الامتناع عن الخوض فيها، والموضوعات التي تجنّبها، والمفهومات التي تحاشى استعمالها، والنّواقص التي لا شك أنها طبعت مساره، بل والعيوب التي اعترت ما كتبه، وما أعمَل فيه فكره، وكلّ ما من شأنه أن يسِم ثقافة يطبعها البريكولاج.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *