غرق قارب المهاجرين: قريتان في مصر تنتظران العثور على مفقودين قبالة سواحل اليونان
- محمد حميدة
- بي بي سي- القاهرة
ما إن تطأ قدماك قريتي أبراش ومشتول السوق في محافظة الشرقية شمال شرقي القاهرة حتى تجد الناس وقد ملأ الحزن منهم المآقي، يترقبون أي معلومة عن أبنائهم الذين فُقدوا في البحر المتوسط، إثر غرق قارب كانوا يستقلونه مع آخرين قبالة سواحل اليونان.
يقول أحد الأهالي وهو يمسك بتلابيب نفسه، أريد أن أعرف فقط “هل مات أخي أم مازال حيا، ولو مات أدفنه بيدي”.
قريتا أبراش ومشتول السوق هما من ضمن عدد غير معلوم من القرى المصرية التي خرج أبناؤها في رحلة غير مأمونة في محاولة لعبور المتوسط إلى شاطئ إيطاليا لتغيير واقعهم. لكن تلك الرحلة تحولت إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في عمليات الهجرة غير الشرعية، حيث فُقد المئات.
جلس رضا السيد جاد الله على سرير يبدو عليه رقة الحال، ساهم العينين وتخرج الكلمات منه بصعوبة بالغة، قال وهو يحاول التماسك: “عندي ولد واحد طلعت بيه من الدنيا، وصمم على الهجرة مع الشباب”.
يقول رضا إنه اضُطر لبيع ممتلكاته لتدبير مبلغ 140 ألف جنيه مصري، أي ما يوازي 4500 دولار، وهو ثمن تذكرة ابنه على المركب المنكوب المتجه إلى إيطاليا، بعدما سافر ابنه إلى ليبيا من دون معرفته.
ويردف رضا “ركب ولدي محمد مركب الهجرة يوم الجمعة (9 يونيو/ حزيران)، قبل أن تنقطع أخباره، بعد سحب الهواتف منهم، حتى سمعنا أن مركباً غرق أمام سواحل اليونان”.
سبعة من شباب عائلة رضا خرجوا على متن هذا المركب، من بينهم ابنه، وابن أخيه.
ومنذ غرق المركب الذي كان يحمل على متنه نحو 750 شخصا وفق شهادات الناجين صباح الأربعاء 14 يونيو/ حزيران، لم يسمع رضا أنباء عن ابنه أو أقاربه، وعما إذا كانوا قد ماتوا أو لا يزالون على قيد الحياة.
السفارة المصرية في أثينا أعلنت عن 43 ناجيا من المصريين الذين تم التأكد من هوياتهم منذ ذلك الوقت، وقامت بنشر الأسماء على صفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي.
في هذا الوقت، لا يزال مصير هؤلاء مجهولا ومعهم المئات ممن هم في عداد المفقودين، حيث تتضاءل الآمال في العثور على ناجين آخرين.
وقامت السلطات اليونانية بالقبض على تسعة مصريين كانوا على متن القارب وذلك بعد توجيه اتهامات لهم بتهريب بشر بطريقة غير قانونية والتسبب بقتل ناجم عن الإهمال.
عصابات منظمة تعمل منذ عقود
يروي محمد صالح كيف سافر ابنه يحيى (18 عاما) إلى ليبيا من دون علمه.
يقول إنه استيقظ في صباح أحد الأيام، فلم يجد ابنه الذي أخذ مصروفه وباع هاتفه المحمول ثم اتصل بوالده بعدما وصل إلى ليبيا مؤكدا رغبته في الهجرة إلى إيطاليا.
ويضيف صالح أن ابنه وقع في أيدي تجار البشر وبعدها بدأت التهديدات تأتينا بالدفع أو القتل، وأكد أنه عرض “على المهربين” أن يدفع 30 ألف جنيه نظير عودة ابنه مرة أخرى لمصر.
ويقول صالح إنه وصل إلى رقم هاتف المسؤول عنهم في ليبيا، حيث رد عليه شخص ليبي معروف باسم “أبو سلطان”، وقال له إن يحيى دخل ما يسمى “التخزين” وهي منطقة في إحدى المزارع في الشرق الليبي، وذلك انتظارا للوقت المناسب للصعود إلى المركب.
وتقول إحدى السيدات إن أخيها أحمد مجدي متزوج ولديه طفلة صغيرة، لكنه فضل الهجرة لتحسين الحال. وتضيف باكية أن ما يسمى بالمندوب يمر على البيوت لجمع الأموال.
ويقول صالح: “نحن جميعا نعرف المندوب الذي كي يضمن أنه غير مراقب يعطي مواعيد مختلفة في أماكن مختلفة. قال لي: تعال إلى أبراش، ثم إلى قرية أخرى مجاورة، ثم إلى مشتول السوق، حتى يتأكد قبل تسليم الأموال أنني غير مراقب”.
رحلة محفوفة بالمخاطر
“أنا عندي 63 سنة، عمليات التهريب تلك مستمرة منذ عشرين سنة وأكثر، يقدمون مغريات على الإنترنت للشباب للسفر”، قال الرجل السبعيني قبل أن ينعي ولده صارخا.
وبحسب شهادات من ذوي المهاجرين لبي بي سي عربي، فإن الشباب الموجودين في أوروبا، يقدمون طرف الخيط لكل من يريد الهجرة من مصر، وتنتشر بعض المقاطع المصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، لشباب أتموا الهجرة غير الشرعية بنجاح، وهو ما يغري الشباب لخوض التجربة.
ويقوم الباحث عن سبيل للهجرة، صغيرا أو كبيرا، بالاتصال بالأرقام المتوفرة على فيسبوك لأشخاص يقومون بعمليات التهريب، وتبدأ عملية التفاوض فوراً حول السعر، والذي بدا موحدا ويقدر بـ 140 ألف جنيه للشخص، حيث يدفع المهاجر دفعة صغيرة أولاً.
ويقول محمد صالح، أحد الأهالي، إن سيارات النقل الجماعي أو “الميكروباصات” تجمع الراغبين في الهجرة. ويضيف صالح أنهم يتوجهون إلى الإسكندرية، ثم إلى السلوم على الحدود مع ليبيا في أقصى الشمال الغربي من مصر، وهناك يتم تركهم لأحد الأعراب لتبدأ الرحلة الحقيقية بعمليات تهريب عبر الحدود المصرية الليبية.
ويتساءل صالح بصوت عالٍ “كيف يعبرون الحدود؟ عبور البشر بكل سهولة بهذا الشكل يعني أن السلاح والمخدرات تعبر أيضا الحدود”.
ويقول صالح إنه قام بالاتصال بالأعرابي المسؤول عن عملية التهريب من الحدود راجيا عودة ابنه، لكنه لم يستجب له.
ويقول آخر من أبناء قرية أبراش إنه بوصول الأبناء إلى ليبيا، يُنقلون إلى إحدى المزارع القريبة من الشاطئ الشرقي في ليبيا استعدادا لبدء الرحلة وهنا تبدأ مرحلة جديدة.
وأجمع أهالي قرية أبراش على أن المرحلة التي تسبق ركوب قارب التهريب تبدأ بعمليات ابتزاز لدفع كامل المبلغ لكل شخص وذلك قبل النزول للبحر، بعضهم قال إنهم تلقوا تهديدات بقتل أبنائهم في حال عدم الدفع، وهو الأمر الذي أكده لنا متخصصون في دراسات الهجرة.
وتقول زوجة أحمد مجدي محمد إنها وأهل زوجها جمعوا المبلغ المطلوب بشق الأنفس، ثم انقطعت أخباره منذ يوم ركوبه القارب المنكوب ولم تعرف عنه شيئاً.
ويؤكد مؤسس الجمعية المصرية لدراسات الهجرة أيمن زهري لبي بي سي أن تجار البشر في هذه المناطق، يعمدون إلى توصيل الشحنات البشرية إلى أوروبا للحفاظ على سمعتهم ومصادر الأموال من التهريب والحصول على الدفعة الثانية من التكاليف إن وجدت.
ويضيف زُهري: يذهب الشباب إلى الهجرة بآمال عريضة، ولا يلقون بأنفسهم للتهلكة كما يتصور البعض، فلا أحد يريد الموت لكنهم يُفاجَأون بعدد ضخم من المهاجرين في مركب قد يكون متهالكا، لتصبح عمليات العبور محفوفة بالمخاطر.
الواقع الاقتصادي الصعب
يقول محمد أحمد عبد العال، وهو شقيق أحد المفقودين، إن أخاه سافر مع المهاجرين لتحسين أوضاعه المعيشية، خاصة أنهم يسكنون في منزل للإيجار، ولم يتمكنوا من شراء منزل على مدار أربع سنوات.
ويرى زُهري أن الأحوال الاقتصادية بالطبع هي الدافع الأول للهجرة.
ويضيف أن الدول الأوروبية لو فتحت أبوابها للهجرة المنتظمة، فإن هؤلاء الشباب لن تتوفر لهم فرص في السوق التنافسية الكبيرة هناك، مؤكدا أن أوروبا تستقطب الأطباء والمُدَرًّبين تدريبا عاليا وتفتح أبوابها لهؤلاء بشكل أكبر وإن كانت في حاجة للوظائف الأدنى كذلك. لكن المهاجرين من فئة الشباب غير المدرب أو غير المتعلم بشكل جيد غير مرغوب بهم هناك.
مكافحة الهجرة غير الشرعية
ودأبت الحكومة المصرية على التوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية بمبادرات مثل “مراكب النجاة” التي أطلقتها وزارة الهجرة، ومحاولات توفير مشروعات صغيرة أو متناهية الصغر.
وتأسست في 2014 اللجنة الوطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية وهي تابعة لرئيس الوزراء المصري.
ويعمد بعض الأهالي إلى إرسال أطفالهم للهجرة اعتمادا على القانون الإيطالي الذي يمنع ترحيل المهاجرين الأطفال دون الثمانية عشر عاما، ليحصلوا على التعليم والإقامة ثم الجنسية. وهذا يفسر العدد الكبير من الأطفال الذي كان على متن القارب.
ويضيف زهري أن الأحوال الاقتصادية “لن تتحسن في الوقت المنظور”، مضيفا بأن معدلات البطالة “تصل في الفئة العمرية الصغيرة نسبيا إلى ما يقترب من 24% رغم كونها على المستوى العام تقترب من 7% “. لذا، فمن يتصور أن الهجرة غير المنتظمة لها حلول واقعية “واهم”.
وأكدت السفيرة نميرة نجم، مديرة المرصد الإفريقي للهجرة في منظمة الاتحاد الإفريقي، أن معالجة مشكلة الهجرة “تحتاج إلى الاستثمار في تنمية البلدان الإفريقية وتبادل الدروس المستفادة”.
وقالت في كلمة لها في “مؤتمر إطلاق التقرير الأول الإحصائي عن هجرة اليد العاملة” إن الحلول لهذه القضية “ليست أمنية ولكن بإطلاق مشاريع تخلق وظائف للشباب”.