أخبار العالم

تأثير الصورة على الأميّين .. “أيقونة الثالوث” تنتصر على المطرقة والمنجل


أرجع الرئيس فلاديمير بوتين أيقونة “تثليث روبليوف” إلى الكنيسة الكاثوليكية بعد 94 سنة من الاستيلاء عليها. وقع الحدث الدال ومتعدد الأوجه في ماي 2023. وقد صارت تلك الأيقونة شهيرة بشكل مدوٍّ لأن المخرج الروسي أندري تاركوفسكي صور عن مبدعها فيلما صنع مجده.

يحكي تاركوفسكي في فيلمه “أندري روبليوف” 1966 حياة رسام راهب روسي في القرن الخامس عشر. هكذا جمع المخرج بين هاجسيْه الدين والفن.

كان تناول هذين الموضوعين في عصر الواقعية الاشتراكية خيانة لموسكو.

كتب تاركوفسكي عن تحضير الفيلم في كتابه “نحت الزمن” قائلا: “كنت معنياً… أن أستقصي طبيعة النبوغ الشعري للرسام الروسي العظيم. لقد أردت أن أستخدم روبليوف كنموذج لسبر واستكشاف مسألة سيكولوجية الإبداع الفني، وأحلل ذهنية ووعي فنان أبدع كنوزا روحية ذات أهمية خالدة”.

عرض الفيلم في مهرجان كان وصار أيقونة مرجعية لعشاق السينما. ما الذي يجعل حدث تسليم الأيقونة للكنيسة معبرا عن المرحلة؟

دينيا، صنعت الأيقونة في كنيسة وبقيت فيها منذ القرن الخامس عشر. يقول مؤرخ الفن جيدي بروتون في كتابه “عصر النهضة” إن “للصورة تأثيرا ضخما على الأميين، لاسيما عند استخدامها للأغراض الدينية” (ص 50).

بعد خمسة قرون، صادر جوزيف ستالين الأيقونة من الكنيسة ووضعها في متحف في 1929.

بعد سبعين عاما، سقط صنم فلاديمير لينين في موسكو فتقدمت الكنيسة بطلب استرجاع الأيقونة المقدسة في 1990، طالبت بأن يتم إخراجها من المتحف لكي تكون في مكانها المقدس حيث سيتبرك بها المؤمنون.

فنيا، كتب تاركوفسكي في كتابه “نحت الزمن” أن “هذه الأيقونة، هذا التذكار، يمكن أن يُرى بطريقة أو من زاوية أخرى”. بالنسبة للمخرج، فالأيقونة تعبر عن سيكولوجية الإبداع الفني وكلفته.

بدأ فيلم “أندري روبليوف” بحلم وكابوس. بدأ بقروي صنع شيئا كالمنطاد وتسلق كنيسة وقفز لكي يحلق في الهواء كطائر. سقط ومات. كان الحلم أكبر من الإمكانيات.

في مشهد موالٍ، وقف كوميدي أمام الفلاحين يسخر من كل شيء. حينها نرى الراهب أندري روبليوف يتابع وصول جنود التتار مرتزقة القيصر لكي يعتقلوا الكوميدي الذي تجرأ على السخرية من الكنيسة والأمير والنبلاء.

كان ثمن الضحك باهظا مع كسر الآلة الموسيقية. نتابع ثمن خطيئة الراهب نفسه. كان أندري روبليوف هو أول راهب فنان وقع أيقونة باسمه وكان هذا سلوكا ممنوعا لأنه دال على الغرور.

كان ذلك علامة تمرد. فعل التوقيع هو إعلاء من شأن الذات المبدعة. في السرد الديني الله هو وحده الخالق المبدع.

لقد اشتغل الرسام الروسي المعاصر مارك شغال (1887-1985) على تلك الأيقونة مرارا. كما قام رسامون روس وسلاف آخرون برسم تلك اللوحة دون أن يصلوا إلى التأثير والمجد الذي حققه أندري روبليوف. ليس كل من حمل ريشة وإزميلا نحات، وليس كل من حمل كاميرا مخرج.

سياسيا، يستعيد الفيلم تاريخ روسيا العنيف الممتد بالالتفاف على الرقابة. يدين المخرج الحاضر الروسي بالتخفي حول حكاية من الماضي. اقتبس تاركوفسكي حياة الراهب المتمرد بفنه في زمن حكم ليونيد بريجنيف (بين 1964 و1982).

صور تاركوفسكي فيلما عن الدين في زمن سطوة الشيوعية التي تعتبر “الدين أفيون الشعوب”. فيلم يذكر بالأيقونة المرجعية المخفية في روسيا في زمن أيقونة المطرقة والمنجل المبجلة. كان ذلك سلوكا متمردا ضد وضع الأيقونة والدين في المتحف.

“أندري روبليوف” فيلم مؤسس في تصوير السرد الديني في السينما. أية شجاعة فكرية وسياسية أدت إلى عرقلة المسيرة الفنية لتاركوفسكي ثم إلى نفيه.

لولا شهرته لكان أعدم مثل البحار المتمرد فاليري سابلين في 1976. إعدام يذكر بتمرد البحارة في فيلم “المدرعة بوتمكين” 1925 لسيرغي إيرنشتاين.

سينمائيا، يستعيد الفيلم تناغم الأسلوب والمحتوى في أيقونات الراهب وفي أفلام المخرج. تستجيب الأيقونات لقوانين الإدراك الحسي لدى المؤمنين كما تستجيب السينما لأحاسيس المتفرجين.

في كتابه المذكور، يشبه تاركوفسكي المتفرجَ الذي يشتري تذكرة سينما بالمؤمن الذي يشتري أيقونة. يقول تاركوفسكي: “إن المتفرج، فيما يشتري تذكرته، يبدو كما لو كان يلتمس سد النقص، أو إكمال الفجوات، في تجربته الخاصة، رامياً نفسه في بحث عن زمن مفقود”، سيستعيده بفضل السينما.

تلك الأيقونة هي رمز الأبدية. الأبدية التي لا تشيخ. الأفلام العظيمة لا تشيخ وتقدم للمشاهدين وصفات لقراءة التاريخ في أصعب مراحله.

في تلك الأيقونة، تواصل الله مع إبراهيم العاقر بأنه سيكون له ولد. فيها رمزية هائلة بالنسبة للكنيسة، ومع ذلك رفض الكرملين الطلب طيلة ثلاثة وثلاثين سنة. فجأة قرر فلاديمير بوتين إرجاع أقدس أيقونة إلى الكنيسة. المتحف مؤسسة علمانية والكنيسة مؤسسة دينية. يبدو أن الأنظمة السياسية ستحتاج المزيد من الشرعية الدينية في السنوات القادمة.

دينيا وسياسيا، بعد ثلث قرن استجاب القيصر الحالي لطلب الكنيسة الأرثوذوكسية.

يبدو أن بوتين في لحظة ضعف بعد عام من الهجوم على أوكرانيا التي كسرت غطرسته بمساعدة الغرب. وبعد ثلاثة أشهر من تصريح وليام بيرنز، مدير المخابرات الأمريكية، بأنه “يجب جعل بوتين يتألم ولا جدوى من انتظار جلوسه إلى طاولة المفاوضات”.

وصلت الرسالة للعظم، ومن حسن الحظ لم تكسر أيقونة روبليوف كما كُسرت آلة موسيقى الفلاح الكوميدي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى