أوراق الصين في سبيل الخلاص من أمريكا
ومع ترصد أمريكا للصين وفرض القيود والعقوبات في عدد من الملفات، طفح كيل التنين وأصبح له دور دبلوماسي مهم في قضايا عالمية، مثل وساطاتها في الحرب الروسية الأوكرانية، ونجاحها في إبرام الاتفاق السعودي الإيراني، واستعدادها للتوسط في القضية الفلسطينية.
هذه التطورات تطرح سؤالا مهما، لماذا اتجهت الصين لممارسة العمل الدبلوماسي الدولي، وهي التي طالما نأت بنفسها عن البعد السياسي للعلاقات الدولية وحصرت أدوارها في الأنشطة الاقتصادية والتنموية.
لفهم ذلك، أعتقد أننا بحاجة للعودة إلى طبيعة العلاقة بين أمريكا والصين، فالعلاقة بين البلدين تتراوح بين الشراكة والخصومة، والإعجاب والكراهية، حيث يتوفر في الصين ظروف استثمارية مثالية من خلال تدني أجور العمل وقلة القيود البيئية، وهو ما شكل عامل جذب لأصحاب المصانع الأمريكيين والأوروبيين، الذين نقلو عمليات التصنيع إلى هناك، إضافة إلى اعتماد تجارة التجزئة على نحو واسع.
مقابل ذلك، تعد الصين مصدر قلق دائم لأمريكا فهي لا تعير أي اهتمام للتهديدات الأمريكية ولا تستجيب لها بسهولة، ما جعل واشنطن تتعامل بحذر مع الملف الصيني برمته، وتسعى على أن تبقي العلاقة معها ناجحة في إطارها الاقتصادي، مع فرض إجراءات تعرقل أي توجه صيني يسعى إلى تجاوز أمريكا، مثل الإجراء الأبرز في تاريخ العلاقة الاقتصادية بين البلدين وهو فرض قيود تصدير مشددة للحيلولة دون بيع رقائق أشباه الموصلات والبرامج التي تحتوي على التكنولوجيا الأمريكية إلى الصين، وهذه الرقائق جزء أساسي في صناعة تبلغ قيمتها 500 مليار دولار، ومن المتوقع أن تتضاعف بحلول عام 2030، ومن يتحكم في سلاسل التوريد، يملك مفتاح أن يكون قوة عظمى منقطعة النظير في المستقبل.
وبالرغم من ضعف الصين عسكريا أمام أمريكا، وتحفظها الدائم في استخدام القوة، فإنها تقوم بخطوات حثيثة للوصول إلى الطاقة والموارد الأخرى حول العالم، وذلك لتعزيز موقفها الاقتصادي والصناعي، فهي الأولى عالميا في بعض مجالات التقنيات العالية والصناعات المتقدمة، وبما أنها مقيدة من جهة البحر، فهي تحاول التعويض بالتمدد غربا، وإعادة بناء شيء مثل طرق الحرير القديمة في نظام عالمي جديد يصل إلى قارات أوروبا وأفريقيا.
برأيي إن اتجاه الصين لاستخدام دبلوماسيتها، وصوتها السياسي بين دول العالم، وزيارة وزير خارجيتها لأوروبا لإقناع دولها بالابتعاد عن أمريكا في مشروعها ضد الصين في تايوان، يعبر عن محاولات صينية لتجاوز الولايات المتحدة الأمريكية، وكسب أصدقاء أكثر حتى من الدول الغربية، ولعل تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دليل على نجاح نسبي لهذه المحاولات، عندما قال: (على أوروبا ألا تتبع أمريكا أو الصين بما يخص تايوان، بل يجب أن تعمل على اتباع استراتيجية مستقلة في هذا الصدد).
وأخيرا، يمكن القول إن نتائج الجهود الدبلوماسية والاقتصادية الصينية تسير وفق خطى ذكية، تستثمر فيها الصين الأوراق المتاحة، وتخلق أخرى جديدة لتلعب بها، لا سيما فيما يتعلق بتنويع النظم الاقتصادية العالمية لإبعاد سيطرة الدولار، وتطوير منظومة دول بريكس الذي بدأ يأخذ شكل كابوس يزعج أمريكا، وكذلك الظهور مؤخرا كوسيط سياسي ناجح يمكن الوثوق به.
كل ذلك لكسب تأييد في كثير من مناطق النزاع مع أمريكا، واتخاذ حلول تضمن للتنين الصيني تفوقه الاقتصادي، في وقت تسعى فيه أمريكا لتعطيل أي مشروع ناجح وجعل الصين متأخرة في أي سباق كان، خصوصا في سباق التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، الذي يتطور بشكل يجعل الرابحين فيه سادة للعالم في المستقبل.