آخر خبر

أين مصطفى محمود؟ | صحيفة مكة


مدين للسوشيال ميديا بمصالحتي على الكاتب والمفكر المصري الراحل الدكتور مصطفى محمود، وتجديد علاقتنا بعد سنوات من القطيعة، فلقد انتبهت مؤخرا لغزارة مقاطع الفيديو المأخوذة من حلقات برنامجه الشهير (العلم والإيمان)، ولانتشارها الواسع بين مختلف تطبيقات (التواصل الاجتماعي)، فبدأت أشاهدها بعين مختلفة، ووجدتها تحمل أفكارا طازجة وقادرة على التفاعل مع أجيال جديدة لم تعش في عصر مصطفى محمود، ولم تتأثر بمكانته الكبيرة عندما كان يتصدر المشهد الإعلامي في منتصف السبعينيات، ويعرض برنامجها في كل التليفزيونات العربية.

وعندما أعدت التفاعل مع المشروع الفكري الراسخ للدكتور مصطفى محمود، وجدت فيه كنوزا تستحق أن يعاد طرحها، وأفكارا جريئة يؤسس عليها في مسألة تجديد الفكر الديني، وكان من أشهر آرائه: «افتحوا النوافذ.. وجددوا هواء الفكر الذي ركد»، «لن تكون متدينا إلا بالعلم.. فالله لا يعبد بالجهل».

ومن المثير للدهشة، أنه يعلن بين الحين والآخر عن اقتراب بدء تصوير مسلسل تليفزيوني يحمل اسم المفكر الكبير (مصطفى محمود)، لكنه أبدا لا يخرج للنور، كما لو كان هذا العمل الذي يحكي مسيرته، تطارده دراما تتماهى مع سيرة صاحبه، فأخباره تظهر فجأة ثم تختفي، وبعدها بشهور يتجدد الوعد ولا يحسم الأمر، ثم يعاود الاختفاء من جديد، ربما هناك أسباب إنتاجية أو لوجستية تعوق ظهور المسلسل، وهي أمور يعلمها صناع الدراما في مصر والعالم العربي، وحديثي ليس تدخلا في رؤيتهم أو رغبة في إرباك خطتهم الإنتاجية.

لكني كنت أتمنى، وتماشيا مع اتجاه (أثمنه) في كثير من دول العالم الإسلامي نحو تجديد الفهم الديني، أن ينتبه إلى أهمية هذا المشروع الدرامي المعطل والهام جدا والذي يستعرض حياة العالم والمفكر المبدع مصطفى محمود الذي غيبه الموت في 31 أكتوبر عام 2009، بعد صراع طويل مع المرض، سبقه رحلة ممتدة من العطاء الفكري والإبداعي، تستحق أن يعاد تسليط الضوء عليها وعلى رؤيته الفكرية السابقة لزمانها، ومحاولاته لفهم عصري للدين، وأطروحاته الفلسفية التي صنع بها مسارا جديدا للتفكير في الدين والتفاعل معه بروح العلم، وما أحوجنا في هذا العصر لإحياء مثل هذا الطريق، وتسليط بعض الضوء على الطريقة التي دشنها مصطفى واجتهد قلة من تلاميذه ومريديه في استكمالها ولم يجدوا الدعم في ظل سيادة نزعات متطرفة هيمنت على الفكر الديني، واختطفت الإسلام لقرون.

وللدكتور مصطفى محمود 89 كتابا منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية إضافة إلى الروايات والمسرحيات وقصص الرحلات، ويتميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة، كما قدم أكثر من 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني الشهير (العلم والإيمان)، وأنشأ سنة 1979م مسجده في المهندسين المعروف باسم (مسجد مصطفى محمود)، ويتبع له ثلاثة مراكز طبية، كما يضم المسجد جمعية فلكية ومتحفا للجيولوجيا، يقوم عليه أساتذة متخصصون. ويضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانيتية، والفراشات المحنطة بأشكالها المتنوعة وبعض الكائنات البحرية.

فيما تركزت جهود مصطفى محمود خلال التسعينيات حول توضيح خطر الصهيونية، وخصص لذلك 9 من كتبه، تضمنت أطروحاته الفلسفية تجاه جذور الخطر وحاضره ومستقبله، لا يختزلها ما ذكره في كتاب (إسرائيل البداية والنهاية)، حيث يقول “إن إسرائيل تتصرف وكأنها تتعامل مع أصفار، وتتوسع وكأنها تمرح في فراغ، وهذا الغياب للموقف العربي سوف تكون له عواقب وخيمة)، ويحذر المفكر المصري الراحل من السلام الذي يسعى إليه الكيان الصهيوني، في كتابه (على حافة الانتحار)، حيث يرى أن إسرائيل ليست لديها نية جادة للسلام بقدر ما هي راغبة في تطويع وقبول من الطرف العربي لسلام من طرف واحد.

وكان الكاتب والمفكر الراحل قد تعرض لأزمة كبيرة في مستهل حياته في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، عندما تم محاكمته بتهمة الكفر بسبب كتابه (الله والإنسان)، لكن المحكمة اكتفت بمصادرة الكتاب. ولم تكن إسرائيل أخر معاركه رحمه الله، بل دخل في أزمة كبيرة بسبب كتاب (الشفاعة)، انتهت به إلى عزلة بدأت عام 2003 واستمرت حتى وفاته سنة 2009.

وكنت قد سألت الشركة المنتجة للمسلسل الذي كتبه السيناريست المعروف وليد يوسف، عن مصيره، ومتى سيتم إنجازه؟، وللأسف لم أجد إجابة قاطعة، رغم حماس المنتج أحمد عبد العاطي للعمل والذي يعتبره (مشروع عمره)، كما أخبرني مؤكدا أن المسلسل حظي بموافقة شخصية من المفكر الراحل بل وكما علمت فإن هناك تعليقات كتبت بخط يده على مشروع العمل، بالإضافة إلى حصول المنتج على حقوق الملكية الفكرية من أدهم وأمل نجلي الدكتور مصطفى محمود، كما أن النجم الكبير خالد النبوي قام بتصوير (فيديو دعائي) تقمص فيه ببراعة الشخصية وعرض للمرة الأولى على موقع (YouTube) عام 2018، وحظي بمشاهدة وتفاعل كبير، يوازى ما تحظي به مقاطع الفيديو وأقوال المفكر الراحل من مشاهدة واسعة وشعبية كبيرة بين الأجيال الشابة من مستخدمي (الميديا الجديدة).

يرحل الجسد ويبقي ما ينفع الناس، لهذا بقيت أفكار وكتب المفكر الراحل وآراءه الفلسفية الجريئة والمؤثرة، خالدة اليوم وغدا، وأختم بكلماته الحاضرة دوما “نحن قادمون على عصر القرود، فبرغم هذا الكم من التكنولوجيا التي وصل إليها الإنسان، إلا أننا أصبحنا أمام إنسان أقل رحمة، أقل مودة، أقل عطفا، أقل شهامة، أقل مروءة، وأقل صفاء من الإنسان المتخلف”.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى