آخر خبر

النزاهة الأكاديمية خلق رفيع! | صحيفة مكة


في العادة ينظر إلى أي مجتمع أكاديمي على أنه مجتمع ملائكي في جوهره وسمو غاياته، مثالي في مظهره وسلوك أفراده، تتحقق فيه المثل العليا من القيم والأخلاق، وتستفيض في حرمه نقاء وطهرا مظاهر النزاهة والأمانة، وهذه الصورة الجميلة التي تجمع ضمن أطرها أسمى المبادئ والغايات، وإن لم تكن واقعية، إلا أنها ما ينبغي أن تكون عليه صورة المجتمع الأكاديمي، أو على الأقل قريبة منها، منسجمة ومتمازجة معها روحا وجسدا، إدراكا وسلوكا، فيكون مجتمعا بشريا في طبيعته وأنموذجا يحتذى به في تعاملاته وتصرفاته، ولكن الواقع ليس دائما كذلك، فتقع الأخطاء الإدارية هنا وهناك، وتظهر معها بشكل أو بآخر بعض صور الفساد.

وإذا ما تحدثنا عن النزاهة العلمية وقضايا الأخلاق الأكاديمية فإن النزاهة أهم خلق يمكن أن يتحلى به أستاذ الجامعة في الأوساط العلمية، وأرقى وسام يحظى به أو استحقاق يناله، وهي خلق رفيع وميزة تميز الجامعات الراقية والمراكز البحثية عن غيرها، وبسقوط النزاهة العلمية في أي مجتمع أكاديمي تسقط معها مواثيق الشرف الأكاديمي ومنظومة الأخلاق والمعايير السلوكية والقيم التربوية، وباختلالها تختل موازين العمل الإداري الأكاديمي وتسوده الاجتهادات الشخصية والمصالح الوقتية، فتضمحل بذلك فرص النجاح في التطوير الإداري، والإبداع والابتكار العلمي.

وفي ظل غياب الرؤية واضحة المعالم مؤطرة الأهداف، أو عدم وجود المحاسبة الجريئة والمستمرة تتلاشى قيم ومبادئ الأمانة والنزاهة العلمية، فتجد الإدارات الأكاديمية نفسها عندئذ مختارة أو محتارة ما بين طلب التفرد والتميز، هكذا كيفما اتفق، أو تسعى لتقليد بعضها البعض، أو تعمل بالاجتهادات الفردية المحفوفة بالمخاطر والأخطاء المؤثرة، فتقبل السير في بعض البرامج بأخطائها وعللها، ومن ثم تبني عليها، وهذا كله -بلا شك- قصور إداري في التفكير والمتابعة، ونقص في التصور الأكاديمي الصحيح.

ولا مجال للتخلص من مثل هذه الحالات إلا بتطوير الإدارات الأكاديمية المقصرة في رسم الخطط والاستراتيجيات المحوكمة، وبلوغ الأهداف والمقاصد المحددة، ومراجعتها بشكل دوري جاد، ولا بد من تمكين القيادات الإدارية الشابة المحبة للعمل والشغوفة بتحقيق النجاحات الحقيقية، والتوعية بأن النقد الهادف، مهما كان غرضه، إنما هو مرآة لها، ورافد حقيقي لتجويد وتحسين العمل الإداري، ولو دخلت الإدارات المسؤولة واشتركت فيه نقاشا هادفا وحوارا ديالكتيكيا لاستفادت منه استفادة قصوى، وربما كان في ذلك تنمية لقدراتها الحوارية، واحتواء له ولتوابعه الشكلية.

برامج الاستقطاب الأكاديمية التي هي أشبه ما تكون بتعاونات مفصلة لغرض وغاية معينة، أو لحاجة وقتية، مثال على ما نقول، فهي برامج لا يمكن الاعتماد والبناء عليها لوحدها، دونما متابعة ومراجعة دقيقة، ولا تصلح لأن تكون أرضية صلبة لاستراتيجيات بعيدة المدى، ولعل الدوافع الرئيسة وراء هذه البرامج هو تحسين الصورة، وخلق وهج علمي وبريق ترويجي من خلال نيل مراكز تصنيفية في التصنيفات الدولية، وهذه الدوافع وإن بدت دوافع شكلية، لا تخدم إلا أغراض هذه الإدارة أو تلك، إلا أنها برامج ليست كلها شرا محضا، بمعنى أنه قد تستفيد منها فئة قليلة من الباحثين الجادين، فيما لو اتسمت بالشفافية والنزاهة العلمية والمراقبة المستمرة.

صحيح أنه إذا ما أوقفت برامج الاستقطاب فلن تظهر بعض الجامعات والمراكز البحثية في التصنيفات الدولية، على الأقل في السنوات القريبة القادمة، وهذه نتيجة منطقية للأخطاء السابقة، ولا بد من تقبل ذلك، وعدم المكابرة والاستمرار في ارتكاب أخطاء أخرى مترتبة عليها، ولا بد من التوقف قليلا لتصحيح المسار وتعديل الاعوجاج، ولتذهب التصنيفات الدولية إلى الجحيم، في مقابل بناء نهضة علمية حقيقية، وتأسيس حركة بحثية نقية ونظيفة، لا تشوبها أي شائبة، فتستطيع المؤسسات التعليمية بعد ذلك أن تنافس بطاقاتها البشرية، وتفاخر بمنجزاتها العلمية.

الرقابة بشكل مكثف في المجالات الأكاديمية أمر ضروري وفي غاية الأهمية، كما أن وجود شخصيات أكاديمية ناقدة لها من الخبرة والدراية ما يجعلها رقيبا مباشرا وعاملا مساعدا أو مستشارا مرجعيا في هذا المجال هو الآخر أمر في غاية الأهمية، فالمسألة هنا مسألة تكاملية، وتعاون مطلوب لتحقيق المصلحة العامة، وفي المقابل ومن خلال الممارسات الميدانية لا بد من توقع وجود الأخطاء الهامشية، وانحراف بعض الاستراتيجيات والبرامج عن مسارها الطبيعي، فلا نضخمها أكبر مما هي عليه أو أكثر مما تقتضيه المصلحة العامة، ولا نتهاون في تصحيحها وتعديل مساراتها.

drbmaz@



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى