منعرجات “تيزي نتيشكا”.. التأخر في إحداث النفق يحول السفر إلى عذاب
همس في أذن رفيقه بالحافلة معلنا له خبر وصولهما إلى منعرجات طريق “تيزي نتيشكا”، ليرده عليه ساخرا أن “الحل الآن النوم، فهو سبيلنا الوحيد لتجاوز ويلات هذه الطريق”، ليبدأ معظم المسافرين في ذلك وكأنه اتفاق ضمني، ومن بقي منهم متيقظا عاد ليعيد من جديد ذكريات متعبة مليئة بالمعاناة، والخوف وسط أحد “أخطر” المنعرجات الطرقية بالعالم.
طريق الخوف
“في كل مرة أستشعر وصولي إلى طريق تيزي نتيشكا، يدب في داخلي شعور الخوف، فهي طريقي الوحيدة للوصول إلى مدينتي “أكدز”، بنواحي زاكورة، وهي الطريق ذاتها التي تحصد الأرواح باستمرار بسبب وعورة، وحدة منعرجاتها”، هكذا تعبر كريمة (21 سنة) عن “معاناتها المستمرة” مع هذه المنعرجات، وهي التي تسافر منها بشكل منتظم بسبب دراستها الجامعية بالرباط العاصمة.
وأضاف كريمة لـ هسبريس بنبرة متعبة: “حتى النوم يخاصم جفنيّ، فالمنعرجات تجبر الحافلة على جعل المسافرين بداخلها في حالة من الاضطراب والتعب النفسي والجسدي، إذ هم في حركة مستمرة حتى ولو تشبثوا بمقاعدهم، فغالبيتهم يعتقد أن النوم هو السبيل لتجاوز الطريق، لكنهم وفي الأخير يجدون أنفسهم منخرطين في المعاناة رغما عنهم”.
تبدأ الحافلة رحلتها الصعبة وسط منعرجات طريق “تيزي نتيشكا”، وهي الممر الجبلي الذي يبدأ من قرية “تازيلدة” الأمازيغية، مرورا بـ”أيت باعمار” و”تدارت” المتاخمة لـ”قرية تامكينكانت” إلى أن تنتهي في حدود قرية “إيغرم ن واكدال” التاريخية. وخلال هذه المسافة يعيش المسافرون لحظات “صعبة” يلخصها أحمد (28 سنة) الذي يسافر من هذه المنعرجات لتلقي العلاج بمراكش، إذ قال : “مرضي هو الوحيد الذي يجعلني أسلك هذه الطريق، ولو كنت بخير لبقيت في بيتي بورزازت على أن أغامر بروحي وبحياتي”.
وأضاف أحمد، الذي تتعدد فحوصاته الطبية بمدينة مراكش بسبب غياب التجهيزات والإمكانيات الطبية بورزازت: “أحيانا أسافر مرتين في الأسبوع من نفس الطريق بمعدل أربع رحلات في المجموع (إيابا وذهابا)، ووقتها يتراءى لي الموت كلما وصلنا إلى هذه المنعرجات التي أصبحت تهددني أكثر من مرضي”.
الوصول بصعوبة
عندما محاولة استكشاف هسبريس الوضع داخل الحافلة، تظهر جليا علامات التعب على “جل” المسافرين، فأجسادهم تصبح منهمكة بوقع الارتجاجات المتوالية، وقلة منهم من يبقى متيقظا وفي كامل وعيه، ووحده حماد (55 سنة) من بقي قادرا على الكلام، إذ قال وجسمه يهتز بسبب هذه المنعرجات إن “هذه الطريق على الرغم من وعورتها، تعطيني إحساسا بالدهشة والمتعة، فعند السفر فيها نهارا ستلحظ عيناك جمالية وسحر جبال الأطلس، وهو مشهد ساحر يجعلك تنسى عذاب الطريق”.
“لا أخفي عليك أنها تسبب لي الكثير من الألم سواء معنويا أو جسديا؛ لكنني اعتدت قساوتها، فكل ما هو فريد ومميز يكون الوصول إليه صعبا، وهو الحال مع هذه الطريق فسحرها وجماليتها يكون الوصول إليه معقدا للغاية”، هكذا لخص حماد علاقته بمنعرجات “تيزي نتيشكا” التي امتدت لأكثر من 20 سنة سواء من خلال الدراسة أو العمل.
حلم تيشكا البعيد
تحلم ساكنة الجنوب الشرقي بالمغرب دائما بخروج مشروع نفق “نتيشكا” إلى الوجود، وهو ما سيخلصهم من معاناتهم مع المنعرجات الخطيرة. ولعل هذا الحلم، الذي بقي معلقا لعقود، بدأت تتعزز الآمال حوله، بعدما أعلنت الحكومة المغربية على لسان الوزير نزار بركة أن “دراسات تقنية أفرجت عن الطريق التي سيبني فيها النفق وهي منطقة أوريكا على طول 10 أمتار”.
وحسب الفاعلين المدنيين بالجهة، تبقى هذه التطمينات الحكومية مجرد حبر على الورق؛ فقد قال بابا الشيخ، وهو فاعل مدني بمدينة ورزازات، إن “نفق نتيشكا من شأنه أن ينهي عذابا نفسيا طويلا لساكنة الجنوب الشرقي، إذ سيقلص من جهة المسافة الزمنية الطويلة والتي تفوق الـ11 ساعة من السفر، ومن جهة ثانية سيتجنب المسافرون المغامرة بأرواحهم في منعرجات الموت”.
وأضاف بابا الشيخ لـ هسبريس أن “حديث الحكومة عن وجود مؤشرات لبدء بناء النفق عن طريق أوريكا، هي أخبار مفرحة وفي الوقت ذاته تشعرنا بسابقاتها، والتي كانت أكثر منها تقدما؛ لكن مع الوقت اتضح أنها مجرد وعود كاذبة، فمنذ أن كنت صغيرا وأنا أسمع بوجود دراسات لبناء نفق ينهي مشاكل الساكنة”.
وأكد الفاعل المدني ذاته أن “الساكنة ستطمئن عند رؤيتها للشاحنات والآلات تحفر الجبال من أجل بناء النفق، وغير ذلك لا يحرك فينا شيئا”.
الآمال التي تعلقها الساكنة على النفق تزداد بقوة بسبب قصص الموت التي حدثت في الطريق؛ فعلى الرغم من غياب أرقام حكومية واضحة عن نسب الحوادث بالمعبر الجبلي، فإن جل ساكنة الجنوب الشرقي تتذكر سنة 2012، والتي كانت سنة “الدماء”، بسبب حادثة انقلاب حافلة بـ”تيزي نتيشكا”، والتي أودت بحياة 42 شخصا.
مسؤولية متفوقة
بتركيز شديد ومهارة عالية، يتجاوز عبد الله (58 سنة) منعرجات نتيشكا وكأنها طريق معبدة؛ فالخبرة، التي اكتسبها على مدار سنوات طويلة كسائق حافلة، مكنته أن يخبر أسرار هذه المنعرجات.
وقال الرجل الخمسيني، بعد أن توقفت الحافلة في إحدى المقاهي بمنطقة “تدارت” من أجل الاستراحة، إن “هذه الطريق تجعلك وأنت سائق لحافلة تقل عددا من الأرواح تحس بمسؤولية كبير تفوق أي منصب كان”.
“على الرغم من خبرتي في المجال، فإن العبور عبر منعرجات نتيشكا ما يزال يخيفني.. صحيح أن الأمر يحتاج فقط إلى القليل من التيقظ وكوبا من الشاي أو القهوة؛ لكنه ما يزال تحديا صعبا، وأي خطأ أو تهور سيؤدي لا محالة إلى كارثة دموية”، أضاف عبد الله الذي تذكر طريق نتيشكا قبل أشغال التوسعة التي كانت قائمة في الطريق لسنوات طويلة والتي كانت تسبب قلقا كبيرا للمسافرين والسائقين؛ لكن مع مرور السنوات خلقت هذه الأشغال نوعا من الفرج لديهم.
وغير بعيد عن عبد الله، تصل حافلة إلى “تدارت” من أجل الاستراحة هي الأخرى قبل التوجه نحو مراكش، وفي مقدمتها يظهر سعيد (45 سنة)، وهو أيضا سائق حافلة نقل للمسافرين، والذي لا يخفي تذمره من منعرجات نتيشكا التي تسبب له “السخط والقلق وشعور الخوف”.
وقال الشاب الأربعيني بنبرة غاضبة: “لا أعلم ما يؤخر السلطات في فتح نفق يخلصا من رعب هذه الطريق، فأنا لم أعد أحتمل الأمر، وفي كل مرة أمر منها أحس بأن الموت قريب مني أكثر من أي وقت”.
“في كل رحلة تعيش عائلي خوفا مستمرا على صحتي، إذ يحملون هما كبيرا ويخافون أن يحصل لي مكروه في الطريق، ولا يطيب خاطرهم إلا بعد سماع صوتي من جديد”، بهذه العبارات وضع سعيد بأسف صورة لحياته ليومية، إذ باشتغاله كسائق حافلة تنظم رحلاتها بين مدينتي مراكش وورزازات يكون من خلالها مجبرا على السفر لنقل المسافرين بشكل يومي، وبالتالي مواجهة “منعرجات الموت” كل يوم.
ومع بروز ومضات الشمس التي تخترق الظلام كاشفة بذلك جبال الأطلس الشامخة معلنة الشروق، ونهاية ليل مر بشقاء على مسافري الحافلة، إذ يسدل الستار على مواجهة جديدة بينهم وبين منعرجات “تيزي نتيشكا”، وفور دخولهم إلى المحطة الطرقية لورزازات، يسارع أحمد إلى حمل حقيبته والتوجه إلى منزله والتعب أنهك قواه الجسدية والعقلية، ملخصا بذلك طريق نتيشكا كونها “طريق جهنم التي تؤدي إلى الجنة”.