رواية “ما بعد الخليّة” للراحل عبد الكريم غلاب.. عندما تلف حكمةُ الفلسفة الحكايةَ
1
في دراسة لها بعنوان “التفكير حول الفكر الأدبي”، تناولت جوليا كريستيفا بالتحليل أبرز محطات المتخيل الأوروبي وصلته بحقيقة المجتمع وأفق مؤسساته الأدبية، وكذا بيان بعض الأوجه الخاصة بقراءة الأدب وإمكانات الكتابة، انطلاقا من سؤال ضمني لا يخلو من وجاهة: ما الحاجة إلى الأدب؟ لتجيب: إنه يصلح للتفكير في هشاشة العلاقات الاجتماعية وما تنتجه من معاني؛ أي أن القراءة تصبح فعلا أدبيا حاملا لمضمون فكري لا يلغي التجربة الذاتية للكاتب والقارئ على حدّ سواء.
تسمح لي هذه الفقرة التمهيدية بالقول إنه من الصعب الإحاطة -في هذا الحيز على الأقل- بمجمل خصوصيات المسار الإبداعي للأديب عبد الكريم غلاب، خاصة حين يتعلق الأمر بتركيز التفكير حول أسئلة تتجاوز في أساسها مسار كاتب مفرد وتلحقه بسياق تاريخي واجتماعي أفرزته حالات ثقافية وفكرية وبررت ضرورته وجدواه، وأسهمت في تحديد ماهية الأدب ووظيفته كذلك. من هنا أفهم هذه العودة المستمرة للنظرية الأدبية لتوسيع أسئلة الكتابة وتوفير مناهج جديدة تلامس علاقتها بالواقع والتاريخ وحقائق الحياة.
من هنا يمكنني القول إن قيمة نصوص عبد الكريم غلاب تكمن في كونها شاهدة على مرحلة في بحثها عن تلاؤم يمكّن هوية الذات من أن تطابق هوية واقعها الاجتماعي والتاريخي.
وعبد الكريم غلاب واحدٌ من بين أبرز روائيينا الذين استطاعوا مراكمة تجربة متواصلة في الكتابة الإبداعية ذخيرته الثقافية شاهدة على ذلك. يبدو غلاب في أدبه القصصي والروائي منشغلا بإنشاء عوالم حكائية تعضدها أشكال تعبيرية هاجسها المساهمة في تحديث أسلوب الكتابة، مع الحرص على انتمائها إلى فضاء اجتماعي وثقافي وتاريخي لمغرب ما بعد الاستقلال اختار عبد الكريم غلاب اقتفاء أثره عبر وساطة التخييل.
2
من هذا المنظور، أمكن لقراء “دفنا الماضي” أن يلمسوا فيها رصدا لنشوء الحركة الوطنية؛ وفي “المعلم علي” نموذجا حكائيا لظهور الحركة النقابية؛ وفي “صباح ويزحف الليل” رصدا لبعض قيم الخيبة لدى شريحة اجتماعية لمغرب ما بعد الاستقلال؛ وفي “شروخ في المرايا” سيادة صور من الإحباط والقلق واليأس والوعي المتوتر لدى جيل المغرب المعاصر.
“ما بعد الخلية” (2003 – دار نشر المعرفة، الرباط) نصٌّ روائي وفكري في الآن ذاته. الحكاية هنا ملفوفة بحكمة الفلسفة، وهي معْبرٌ لاستعادة بعض التأملات كما تجليها تجربة شخصيات روائية مُضعّفة بين الأنا والهِيَ، بين الحضور والغياب، بين اللقاء والافتراق، بين الصمت والكلام. تدفع الأنا الهِيَ إلى مسارب شتى من الانفعالات، وتدفع الهِيَ بالأنا إلى التماس الملاذ في الصداقة والألفة والمحبة.
بيّن جان إيف تادييه في دراسته الرواية في القرن العشرين ضمن الفصل الخامس المعنون الرواية والفكر أن الحوار في الرواية هو أحد الأماكن المفضلة لكي يعبّر مؤلف ضمني عن أفكاره من منظور لا يتطابق مباشرة مع صوت المؤلف الواقعي. لكنني وجدت في رواية “ما بعد الخلية” أن السرد أضحى بدوره مجالا لعرض الأفكار بوصفها إمكانية تخييلية تمنح الكتابة الروائية أفقا دلاليا غير قابل للاختزال في جنس خطابي معين، لأن اللغة تتحرر فيه لتعبّر عن العواطف الساكنة في الوجدان.
من هذا المنظور، تؤثث رواية “ما بعد الخلية” شخصيات تقف على حافة الانتحار، وأخرى تشغل بالها بمواضيع المساواة بين الرجل والمرأة، والطلاق والعمل النقابي والحياة الطلابية وحقوق الإنسان والإرهاب… تتحدث عن ذلك بجرأة فكرية تستدعي البحث عن معنى الانتساب إلى الخلية، والسبل الكفيلة بالتحرر من أغلال الماضي ونفعية السلطة. كل شخصية تعيد تشكيل حياتها من خلال العلاقة مع ذاتها ومع الآخر؛ مع الكتابة والبحث عن أسلوب في الحياة، غايتها رغبة ملحة لفهم وضع مفارق تحياه بين عالم قائم وآخر محلوم به.
تبدو الحكاية في الرواية حصيلة تجربة مشحونة بالتأمل والمكابدة، حتى وإن بدت شخصياتها مراوغة وضبابية فهي لا تحمل أسماء. الأسماء “في ما بعد الخلية” لا قيمة لها. هي ضمائر وألقاب: أنا – هي – الأخرى – الآخر – المنقذ من الضلال… لا تسرد الأسماء إلا ما يشغلها، وما يمكن أن يكون تافها بالنسبة للبعض، يعتبر بالنسبة إليها ماهية وجود. ضمائر لا تهتمّ بسرد التفاصيل، بل تتقصّد الجوهر. من ذلك مثلا:
رغبة “الأنا” في التمسك بالحياة وعدم إنهائها بالإرادة، لحظة قوية دفعته لرفض الموت بعدما كان عازما على الرحيل؛ لحظة تدعوه للتخلي عن حاجز القنطرة، أي الانتصار على إرادة النهر. نفس هذا المشهد يوظفه عبد الكريم غلاب في رواية “شروخ في المرايا”: استعادة الحياة والبعث من عمق لحظة اليأس. “أنا” ضمير “لا شخصي” يركب عالمه الخاص بعدما كان نصف مثقف، نصف سياسي، نصف مناضل، نصف قارئ، نصف كاتب، نصف مبصر، نصف سامع، نصف ذكي، نصف متحرك، ونصف فاعل، يعني ذلك كله: نصف إنسان؛ وها هو اليوم يرفض الأنصاف، أن يكون أو لا يكون… أنصاف الناس لا مكان لهم في هذا العالم (الرواية ص 7).
البطل في الرواية تقوده خطواته إلى عالم يكون فيه إنسانا بعقيدة وفكر واستقامة أخلاق.
3
لذلك، يودّ عبد الكريم غلاب أن يقنعنا بأن العالم الذي يأوينا أضحى هجينا ولم يعد يغمرنا إلا باليأس، والوهم، والقلق، والخوف. لكنه يقنعنا أيضا بهذه الحكمة: مواجهة الفشل وتغيير أسلوب التفكير وطريقة العمل كفيل بتغيير السلوك والمجتمع. وحين تختلي الشخصيات وتنزوي، فلأنها ترغب في العودة إلى حالة طبيعية تمكنها من أن تعيش حاضرها بروح التحدّي، وبشعور غامر لتجاوز ما يؤزم هويتنا. “ما بعد الخلية” رواية تجربة فحواها عالم من الأفكار والأحلام نسغها حياة وكائن… المستقبل زمنهُ الوحيد حتى وإن كان شديد العتمة.
“ما بعد الخلية” رواية كائن لا يأكله يأس أو هوس، ولا ينطق بشعارات تبعث على الشفقة؛ لذلك، فهي جديرة بالقراءة اليوم وغدا وبعد غد…