روسيا وأوكرانيا: كيف يراقب الناتو “الزومبي” الروسي في قاعدة جوية في إستونيا؟
- فرانك غاردنر
- مراسل بي بي سي للشؤون الأمنية
في غرفة الطاقم العسكري الصغيرة، الكائنة في مبنى بجوار مدرج قاعدة أماري الجوية في إستونيا، يشاهد بعض أفراد الطاقم على شاشة التلفزيون حلقات قديمة من المسلسل الكوميدي الأمريكي الشهير فريندز Friends.
يضع أحدهم قدمه على الطاولة، ويحمل بعضهم أكواب القهوة، وتبدو الأجواء غير رسمية لحد كبير. على شاشة التلفزيون، يطالع الجالسون مشهد عودة بطلة المسلسل ريتشل لتوها من مركز التجميل وتصفيف الشعر بينما يبدو البطل وروس مستاء من شيء ما. في تلك الأثناء طل أحد الطيارين برأسه من المدخل وأعلن بهدوء: “زومبي يتجه شمالا قادما من كالينينغراد”.
على الفور يقف الجميع وينتقلون إلى غرفة العمليات المجاورة، حيث تومض الشاشات والخرائط الرقمية، التي تحمل علامة “سر الناتو”، بسيل متتابع من البيانات الواردة.
هذه الوحدة هي قوة الرد السريع لعملية Azotize، وهي مهمة تضطلع بها الشرطة الجوية لدول البلطيق التابعة للناتو تهدف لحراسة الحدود الشمالية الشرقية للتحالف، حيث تقوم الطائرات الروسية بانتظام بعمليات استطلاع في حدود أراضي الناتو.
منذ أبريل/ نيسان الماضي، تولى السرب التاسع من طائرات تايفون المقاتلة التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، قيادة المهمة بعد أن كان الأمر منوطا تاريخيا بسرب ريشتهوفن الألماني.
أجبر الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا تحالف الناتو العسكري على تركيز جهوده على تأمين حدوده الشرقية. الهدف بسيط،؛ ألا وهو ردع روسيا عن غزو أي مكان آخر، وتحديدا أي بلد عضو في تحالف الناتو مثل إحدى دول البلطيق الثلاث (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) أو بولندا.
وتسمية “زومبي” هي رمز يطلق على أي طائرة روسية تتصرف بشكل مريب.
يوضح سكوت ماككول قائد جناح فرع عمليات مدينة لوزيموث في اسكتلندا، التابع لسلاح الجو الملكي البريطاني: ” عادة التصرف المريب يكون أحد الأشياء الثلاثة التالية؛ أن تكون الطائرة لم تفصح مسبقا عن خطة للتحليق، أو أن طاقمها لا يتواصل معنا، أو أنها ببساطة لا تستجيب لفريق مراقبة الحركة الجوية… في بعض الأحيان تكون الأسباب الثلاثة مجتمعة”.
أما اليوم فقد تبين أنه إنذار كاذب حيث تحولت طائرة “الزومبي” شمالا مبتعدة عن حدود الناتو.
وقد كانت قاعدة أماري الجوية في إستونيا، حيث تتمركز طائرات تايفون، موقعا للقوات الجوية السوفيتية في الحرب الباردة، ولا تزال هناك مقبرة في الغابة المجاورة حيث دُفن الطيارون السوفييت جنبا إلى جنب مع الطائرات القديمة من طراز ميغ -15 وميغ -17.
اليوم مهمة طياري الناتو هذه معقدة ولا هوادة فيها. وبعد انضمام فنلندا مؤخرا إلى الحلف، بات بحر البلطيق يحد سبعة أعضاء من الحلف، وقريبا ستصبح ثمانية عندما يتم تمهيد الطريق أمام السويد للانضمام.
لكن لا يزال لروسيا موطئا قدم استراتيجيان في بحر البلطيق؛ ألا وهما ثاني أكبر مدنها سانت بطرسبرغ ومقاطعتها كالينينجغراد إلى الشرق، ومدينة كونيغسبيرغ البروسية السابقة ومناطقها النائية، التي تعج حاليا بالصواريخ وغيرها من المعدات العسكرية.
تحلق المقاتلات الروسية من طراز فلانكر إس يو -27 Su-27 Flanker، وطائرات القيادة والتحكم المحمولة جوا، بالإضافة إلى طائرات الشحن، بشكل مستمر جيئة وذهابا فوق بحر البلطيق بين هاتين القاعدتين وما وراءهما، مما يبقي القوات الجوية للناتو في حالة تأهب مستمر.
يقول أحد الطيارين الأصغر سنا من قادة طائرات تايفون، والذي طلب عدم ذكر اسمه: “لذلك يمكن أن نجلس هنا بكل استرخاء، ونشرب فنجانا من القهوة، لكن في أي لحظة يمكن أن يدق ناقوس الخطر”.
ويتابع قائلا: “إننا نستجيب لأي إنذار كما لو كان الأمر حقيقيا. لذلك نهرع إلى الطائرة، ونرتدي زينا الكامل ونتزود بكافة معداتنا، ونشغل المحركات، ونتحدث إلى برج المراقبة والتحكم، ومن ثم نتحدث إلى غرفة العمليات على أجهزة الراديو للحصول على التصريح، ثم نخرج ونحلق في الجو بأسرع ما يمكن “.
داخل حظائر الطائرات يقترب طيار آخر من إحدى طائرات تايفون. إنهم مسلحون و في “حالة تأهب”، ومستعدون للانطلاق إذا لزم الأمر.
يشير قائد الجناح ريك ليسك، إلى صاروخ طويل وأنيق مثبت على جانب جسم الطائرة. ويقول: “هذا هو النيزك… لقد كانت هذه الصواريخ في الخدمة من الناحية التشغيلية منذ عام 2018. في الواجهة الأمامية لديها رأس مزود برادار، وفي المؤخرة مزودة بأنظمة دفع خاصة مع محرك رامجيت (نوع من المحركات النفاثة)”.
صواريخ أخرى أصغر مصممة للمعارك قصيرة المدى مثبتة على رؤوس الأجنحة.
إذن ما الذي يحدث في الواقع عندما يقترب الطيارون من هؤلاء “الزومبي” الروس؟ أليس من المفترض أن لا أحد يريد البدء في إطلاق الصواريخ وبدء الحرب العالمية الثالثة؟
يجيب قائد الجناح ماككول قائلا: “دورنا هنا هو حماية المجال الجوي للناتو”، مضيفا أن “قواعد الاشتباك الخاصة بنا سرية”.
طيار آخر يبدو مباشرا بصورة أوضح يقول: “لا نعرف الطائرات التي سنعترضها، لذا نتريث إلى أن نحدد الطائرة، ثم نحصل على مزيد التعليمات والمهمات الأخرى من مركز العمليات، ونستجيب لما يقولون لنا إن علينا فعله”.
ما أعرفه هو أن طياري سلاح الجو الملكي هؤلاء يلتقطون الكثير من الصور للزومبي، إذ أن التحليق بجانب طائرات “الزومبي” ومرافقتها عبر المجال الجوي للناتو يتيح لهم التقاط صور واضحة جدا.
يقول القائد ماككول: “لقد أجرينا ثماني طلعات جوية لاعتراض الطائرات، كلها كانت ضد الطائرات الروسية … لطالما كنا نقوم بأعمال الشرطة الجوية في منطقة البلطيق لعدة سنوات، لكن لا شك في أن الغزو الروسي غير القانوني لأوكرانيا العام الماضي قد غير الديناميكية هنا”.
لقد تغيرت الأمور على الأرض أيضا، إذ باتت هناك حاجة ملحة لإنشاء قوات برية كافية لردع أي توغل روسي محتمل في المستقبل.
أخبرتني رئيسة وزراء إستونيا كايا كالاس، التي نشأت في طفولتها في الاتحاد السوفيتي، أنه ليس لديها أدنى شك في أنه إذا نجح بوتين في غزوه لأوكرانيا في نهاية المطاف، فستكون مسألة وقت فقط قبل أن يتحول إلى دول البلطيق.
كجزء من سياسة الناتو في “قوة الدفاع والردع المعززة للخطوط الأمامية” في دول البلطيق تلك وبولندا، توجد مجموعات مقاتلة متعددة الجنسيات بقيادة بريطانية ومقرها تابا في شمال إستونيا. بالإضافة إلى الدبابات القتالية الرئيسية الموجودة هناك من طراز تشالنجر 2، وأنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة وطائرات الهليكوبتر آباتشي، ووايلدكات، كما يوجد أيضا وحدة من الفيلق الأجنبي الفرنسي (يضم جنودا متطوعين أجانب وفرنسيين)، تهدف جميعها إلى العمل كجبهة موحدة لردع أي تحركات من قبل موسكو.
يقول العميد غيلز هاريس، الذي يقود عملية كابريت البريطانية في إستونيا، “إن التحدي الذي يواجه الناتو هنا في دول البلطيق هو ردع روسيا لكن من دون تصعيد”.
غير أن أعداد قوات الناتو تبدو ضئيلة مقارنة بالقوات الهائلة التي يمكن لروسيا حشدها عبر الحدود في الأوقات العادية. كان هناك اعتراف متردد بأن قوة الردع التابعة لحلف شمال الأطلسي في إستونيا ستعمل بشكل أساسي كـ “حجر عثرة”، يفسح المجال لتعزيز سريع في حال بدأت القوات الروسية بالتقدم غربا.
لكن هل لدى الناتو قوات كافية في المكان؟
يقول العميد هاريس: “يجب أن تكون المجموعات القتالية [في دول البلطيق] كافية لتشكل رادعا… إذا فشل هذا الإجراء فهذا يعني نهايتنا”.
“إذا قررت روسيا الغزو، فلن يكون أمامنا سوى التوجه شرقا لقتالها”.