المحتسبون الجدد وموضوع الاختلاط | صحيفة مكة
كان ذلك فيما مضى حتى جاء الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء، وبرعاية أبوية من ملك حكيم وهو خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز يحفظهما الله، فوضع حدا لكل ذلك التيه، وأعاد للمجتمع إنسانيته وثقته بنفسه، ليستعيد الناس مروءتهم وأخلاقهم التي استلبتها (الصحوة) منهم باسم الحماية من الوقوع في الحرام، وما درى أولئك أنهم قد عطلوا قاعدة ربانية مهمة، وهي قاعدة الحرية والاختيار التي تعبدنا الله بها دونا عن بقية خلقه، فلا إكراه في الدين، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، والعبرة بعدم المجاهرة بالمعصية، وعدم التمظهر بغير ما عليه غالبية المجتمع على الصعيد السلوكي دينا ومجتمعا.
هكذا يتأسس مجتمع إيماني قويم، يملك حريته في اختياره، مع محافظته على عدم خرق السلوك العام للدولة والمجتمع، ولذلك فليس مقبولا على سبيل المثال أن يفطر أحدهم جهرا في شهر رمضان في بلد ومجتمع يؤمن بالصيام فريضة من الله، ولا يهمني كفرد إذا كان صائما لله أم صائما استجابة لطقس وعادة اجتماعية، وكذلك الحال مع بقية الشعائر الدينية، لأن العارف بالنفوس هو الله، والحاكمية له وحده.
ما يهمني من الآخَر -أيا كان عرقه وجنسه ودينه- ألا يتعدى على حقوقي الآدمية، وأن يحترم خصوصيتي، وألا يفرض علي سلوكا دينيا مخالفا لما أؤمن به، فلي الحق في أن أقيم شعائري، وله الحق في ألا يلتزم بها، غير أننا نؤمن جميعا بأننا متساوون في الحقوق والواجبات المدنية والقانونية والمجتمعية والإنسانية. كان ذلك ما نادينا به، على أن صوتنا قد ذهب سدى، بل وتعرضت وغيري للهجوم والافتراء والفجر في الخصومة، ولم نشعر بالراحة إلا حين أجرى الأمير التنويري قوانين مجتمعية أعادت لنا إنسانيتنا وفق فهم ديني صحيح.
في تلك المرحلة كان أكثر من يواجهنا بعنف أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «المحتسبين»، وهم جماعات متطوعة، تفتئت حق الدولة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتفرض سلوكا مجتمعيا وفق فهمهم الديني القاصر، والأسوأ أنهم قد تشددوا في مسائل فقهية مختلف حولها، وبعضها متفق على جوازه، ومن ذلك مفهوم الاختلاط والخلوة.
في حينه لم يدركوا بأن الاختلاط سنة كونية ولا إشكال فيه، وأنه سمة منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقل بتحريمه أحد من علماء السلف؛ وأن الخلوة المحرمة فقها لا تكون إلا بتحقق شرط الأمان؛ والأمان الذي أشار إليه الشارع لا يحصل في الطريق، والسيارة، والمطعم، والمقهى، والعمل الواحد، وبالتالي فلا يعد اجتماع رجل وامرأة في مكان عام خلوة محرمة.
إنها مسألة فقهية بسيطة لمن تدبر ووعى، والحكم فيها يدور مع علته نفيا وإثباتا، فإن انتفت العلة انتفى الحكم؛ لكن ذلك لم يكن ليقنع أولئك «المحتسبين» الذين اتهموا الناس بالباطل، ثم لما صدح الحق بقول أمير التنوير انكفأ أغلبهم على عقبيه، واستمر آخرون منهم في الظهور بشكل جديد وصورة جديدة، حيث أخذ «المحتسبون الجدد» في إثارة الذعر بين الناس وزملاء العمل باسم تعريفهم بالقانون الجديد، وباسم النصيحة، وما أراهم إلا دعاة فتنة بأشكال جديدة.
أخيرا وحتى لا ننسى أتذكر تلك الصورة القمعية في الفصل بين الجنسين خلال فعاليات معرض الكتاب تحديدا، التي تم فصل العائلة الواحدة فيها، حيث حددت أيام للرجال وأخرى للنساء، ثم جاء القرار الحكيم في حينه بإنهاء ذلك، فكان أن عجّ المكان بالعديد من العوائل، نساء ورجالا، صغارا وكبارا، ودون أن يعيش المجتمعون حالة من الوسوسة الشيطانية، أو تتحلل قيمهم الأخلاقية لمجرد التلاقي، وكان أن أثبتنا لأولئك المتنطعين بأننا مجتمع تتملكه صفات المروءة والنخوة والشرف.
إنه واقعنا الذي يجب أن نتمسك به ولا نسمح للمحتسبين الجدد أن يعكروا صفوه، وأرجو من الجهات المسؤولة محاسبتهم لافتئاتهم المتجدد، والله يحفظنا من قبل ومن بعد.
[email protected]