أخبار العالم

كيف يمكن تحرير النقد السينمائي من وصاية النقد الأدبي في الجامعة المغربية؟



مرت ثلاث سنوات على طرح هذا السؤال في 20-04-2020، وما زال الوضع على حاله. وهذه مرافعة تطالب بتغيير الوضع في زمن “حضارة الصورة”.

عرفت السنوات الثلاث انتشارا أكثر لمنصات البث الرقمي للأفلام، وزاد عدد المهرجانات والقاعات السينمائية في المغرب؛ لكن الجامعة المغربية ما زالت تركز على شرح حجاج الشعر وكشف أسرار العروض في زمن قصيدة النثر. تتناول التاريخ المكتوب وتتجاهل المسلسلات والأفلام التاريخية. تركز كليات الآداب على اللغة، وليس على الصورة. وكأن شاعرا أو روائيا حقق في قرن كامل عُشر عدد مشاهدات أو مداخيل فيلم واحد مثلا هو “الجوكر” (2019 لتود فيليبس) في عام واحد.

إليكم حقائق بالأرقام لدعم المرافعة عن تحول ثقافي في بداية القرن الحادي والعشرين، تحول يستتبع تغيّرات بيداغوجية وديداكتيكية في زمن هيمنة الصورة على كل الوسائط.

لقد انقرضت المجلات الأدبية والصفحات الأدبية في الجرائد؛ بينما مازالت الجامعة تتحدث عن الأدب كأنه حقل معرفي مهيمن.

تقول الإحصائيات إن المغربي يطالع 15 دقيقة في السنة.

تطبع أية رواية في المغرب حوالي 1000 نسخة، وتباع خلال 5 سنوات.

يُقرأ الأدب والنقد الأدبي من قبل متخصصين نادرين، وهم أقل من 200 شخص سنويا في كل المغرب بناء على أرقام توزيع الكتب.

رغم ذلك تنغلق كليات الآداب على ما يجري حولها وتشتغل بما تبقى من مجلاتها النخبوية وندواتها مع ذلك العدد الصغير من القراء. مجلات مجبرة على نشر مقالات قصيرة.

بالمقابل، وصل عدد منخرط نيتفليكس 232000000 شخص في العالم، أربعة لكل منخرط أي مليار شاشة. وأي مقال عن فيلم شاهده 1٪ من المنخرطين سيثير تفاعل عشرات الملايين.

لو فرضنا أن منخرطي العالم العربي يمثلون واحدا في المائة؛ فهناك أكثر من 2320000 مشاهد للأفلام والمسلسلات لا تخاطبهم كليات الآداب.

تساوي ميزانية إنتاج الأفلام في السينما والتلفزيون في المغرب أضعافا عديدة من ميزانية وزارة الثقافة بكاملها. يتراجع تمويل واستهلاك النص اللغوي لصالح الفنون البصرية، حتى الأغاني صارت تصور لتسمع وتُرى.

بفضل السينما صارت روايات “هاري بوتر” أكثر شهرة.

انقرضت الصحافة الورقية تقريبا، وصارت الأخبار تستهلك مصورة لا مكتوبة.

منحت وزارة التربية في التعليم الثانوي الأولوية للتوجيه نحو الشعب العلمية، بالتالي تكاد الشعب الأدبية تنقرض. صار التلاميذ المزودون بالهواتف يستهلكون الصورة لا الأدب المكتوب. هذا هو الواقع. ثم بعد البكالوريا يتوجه التلاميذ لدراسة تخصصات التواصل والماركتينغ التي تلعب فيها الصورة وبيانات الأنفوغراف دورا مركزيا؛ لكن هؤلاء التلاميذ، الذين يريدون جعل التسويق والتواصل مصدر رزق، لم يتلقوا أي دروس بصرية تؤهلهم لهذا التخصص الرقمي البصري. كيف يمكن لتدريس الصورة أن يعالج هذا الخلل المعرفي الناتج عن الثورة التكنولوجية؟

لهذه الثورة الرمزية في الوسيط معادل في العالم المادي. حاليا، يعرف العالم طفرة في إنتاج طاقات متجددة للتخلص من الوقود الأحفوري.

إذن، يحتاج المجال الثقافي مثل هذه الطفرة ليكون على صلة فعلية بالواقع.

لقد وقعت هذه التحولات في البنية الثقافية. ألا تفرض تعديل هندسة البحث الجامعي لينتقل من التركيز على تناول كتب التراث إلى تناول الفنون التي يتابعها الشباب اليوم؟

طبعا يفرض، فالاستعارات البصرية أقل تشفيرا وغموضا من الاستعارات اللغوية، وهي تملك سَننا خاصا بها، سَنن وليس سُنن. وهذا ما يصنع مجد الفيديوهات القصيرة على “تيك توك”. هذا تحول مهول مدعوم بالأرقام في عصر حضارة الصورة حسب ريجيس دوبرييه الذي قال: “لقد فقدت الكلمات المكتوبة قوتها لصالح الصورة”.

وحين سئل هذا الفيلسوف الذي يلاحظ بدقة ما حوله: هل يمكن لكتاب أن يغير العالم؟ أجاب: نعم، بشرط أن يُقتبس الكتاب، يصور فيلما أو سلسلة فيحقق ملايين المشاهدات على مواقع التواصل. هذه هي هندسة فكرية جديدة.

هندسة يجب على التعليم بكل أسلاكه أن يتكيف معها.

يعتبر الذوق التقليدي المصدوم أن كل ما يعرض في “تيك توك” هو تفاهات وليس تعبيرا من البشر عن ذواتهم بلغة الجسد. وحين يعجز ذلك الذوق عن فهم الظاهرة وتفسيرها يشتم مليارات متابعيها بالتفاهة.

الشتم علامة عجز عن إدراك أن الكاميرا تقدم المعادل الأنثروبولوجي للمشهد سلوكيا وبصريا.

يفرض هذا التحول تغيير هندسة التعليم ليواكب حضارة الصورة.

صحيح، لقد عمدت وزارة التعليم العالي في المغرب إلى تعديل تسمية كليات الآداب وصارت “كليات الآداب والفنون والجماليات”؛ لكن موقع السينما هامشي في المقررات، وجله تحت وصاية أساتذة العَروض والبلاغة وتاريخ الأدب القديم. وحين تعلن الكليات عن مناصب لتعيين أساتذة يجري ذلك تحت بند “النقد الأدبي”. ولا مرة ذُكر النقد السينمائي في وثائق وزارة التعليم العالي أو الجامعات.

هناك أزمة في الخطاب حول الفن؛ لأن ذلك الخطاب الموروث لا يواكب التحولات على الأرض. لقد وقع تحول هائل في المحتوى وطرق انتشاره. لقد تفوقت الصورة على اللغة، فكيف يمكن إخراج النقد السينمائي من عباءة النقد الأدبي؟

لم يعد بالإمكان كتابة بحث نصفه عبارة عن نصفه تعريف بالمؤلف وتلخيص للنظرية… حين يكتب ألف جامعي بحث على هذا المنوال سيسبب تراكما هائلا من التكرار خارج الموضوع.

نتيجة الغياب الفعلي للنقد السينمائي هو أن نصف الفيلموغرافيا المغربية الذي صدر في العشر سنوات الأخيرة لم يُدرس بعد. وحتى حين يتم تناول فيلم مغربي يتم التركيز على فيلم عمره أربعين سنة مما يوفر للباحث تعاليق يستنسخها. هناك خوف من تناول الأفلام الجديدة. ومن يعترض ليقم أمثلة مضادة.

المطلوب إنتاج خطاب نقدي يلائم عصر الصورة، وخصوصا الصور السينمائية المتدفقة على الشاشة.

لا بد من الاعتراف بأن هناك اختلافا بين اللغة والصورة، تقدم الجملة اسما وفعلا وحرفا، يتحدث النقد الأدبي عن المونولوج أو الحوارية (Monologue- polyphonie ) بينما تقدم الصورة شكلا ولونا وحجما ومنظورا ناتجا عن موقع الكاميرا… لذلك، يتحدث الناقد الفني عن أحادية اللون أو تعددية الألوان (Monochrome- polychrome).

هناك تحول في وسيلة التعبير وفي أداة استهلاك المعرفة. لقد تغير المشهد الفني بشدة منذ بداية القرن الحادي والعشرين… هذا تحول كمي وكيفي، ولا يمكن التعامل معه بتكرار إرث القدامى… لقد تغيّر الوضع ومن والصعب تطبيق منهج تحليل البلاغة على الصور. تبنى طلبة كثيرون تحليل الخطاب البلاغي منهجا لأبحاثهم وهم يحالون الإقناع والتأثير بواسطة اللغوس والإيتوس والباتوس؛ لكن في منتصف الرحلة وجدوا أنفسهم في متاهة من الرمل… هذا منهج بلاغي لا صلة له بأفق انتظار الفرد في القرن الحادي والعشرين.

لقد صارت الكاميرا وسيلة التعبير الأكثر انتشارا في الفن وفي الحياة اليومية… حتى تحكيم مباريات كرة القدم تلعب فيه كاميرات الفار دورا كبيرا.

ما هو موضوع النقد السينمائي؟

الفن المرئي. “إن الفن هو عملية إبداع لأشكال قابلة للإدراك الحسي” 11 “الفن هو محاولة تجسيد موضوع مرئي” فاروق بسيوني، قراءة اللوحة في الفن الحديث بيكاسو. ص 11و12. والنقد السينمائي هو تعامل مع هذا الموضوع المرئي.

حاليا، يغلب التواصل بلغة الجسد في عصر الصورة والدليل مئات ملايين المشاهدات في مواقع التواصل. هنا الكاميرا أشد دقة من أي راو مما يثبت تفوق العين… حاليا، يحمل كل فرد ثلاث كاميرا على الأقل في هاتفه، نادرا ما يحمل الفرد قلما. بحثتُ عن كاميرا في موقع غوغل فعرض 60000 مليون مادة في 48 ثانية. بحثت عن قلم فعرض 600 مليون مادة في 40 ثانية….

تذكير للمتفلسفين: لقد تم اختراع الكاميرا 1850 بعد وفاة إيمانويل كانت (1724- 1804) وفريديريك فلهلم هيغل (1770-1831)… وبذلك مشكوك أن يكون هذان الفيلسوفان قد تحدثا عن جماليات الفن الذي يصنع بواسطة الكاميرا. المونتاج لغة بصرية لا معادل له في اللغة (يعتبر التضمين في الشعر عيبا بينما هو مزية في المونتاج). يبني المونتاج علاقات بين عناصر متباعدة وهذه العلاقة تسحر في الفيديوهات القصيرة.

قديما تساءل بوالو ديبريو في كتابه “فن الشعر” هو موضع الآداب والفنون؟ أجاب: “ابحثوا عن إشكالات تربطني وإياكم” بوالو ديبريو، ص 42

ما الذي يربط بين البشر اليوم؟ الصور. الأفلام والمسلسلات. الفيديوهات القصيرة.

صارت الصورة هي التي تربط بين البشر اليوم، للصورة السينمائية لغة واحدة وللأدب مئات اللغات… إن كل صورة موجهة إلى كل شعوب العالم ولا تحتاج ترجمة (فقدت الفوارق بين اللغات قيمتها بفضل الترجمة الرقمية ودبلجة الأفلام والمسلسلات). عندما لم يحصل المنتخب المغربي على ضربة جزاء في مقابلة نصف نهائي المونديال قطر 2022 ضد منتخب فرنسا ورفض الحكم اللجوء إلى كاميرا الفار رفع اللاعب أشرف حكيمي ذراعيه في حركة احتجاجية موجهة إلى ملايير المشاهدين. وتم تقاسم الصورة ملايين المرات وما زالت حية.

تسمح مثل هذه الحركة بفهم جزئية بصرية في فن الاحتجاج، تسمح بتعميم الحكم بها من طرف كل مظلوم يحتج في أي مكان في العالم.

هذا تحول موضوعاتي ومنهجي، تغير المتن إذن يجب أن يتغير المنهج. يجب التسلح بمنهج نقدي حديث يلائم حضارة الصورة التي نعيشها. نقد يحمل طموحا معياريا ونظرية منهجية… لكي يخرج النقد السينمائي من ظل النقد الأدبي. يجب إقرار النقد السينما في كليات الآداب والفنون ليصل نقد الصورة إلى هذا الجمهور الواسع.

إذن، لا بد من نقد سينمائي يتبنى منهجا استقرائيا تجريبيا، نقد يقوم بتحليل الصور الجديدة التي تكشف كونية الأحاسيس والمفاهيم والممارسات…. لذلك، يمكن أن تتواصل الجمعية المغربية لنقاد السينما مع رؤساء الجامعات لتخليص النقد السينمائي في الجامعة المغربية من وصاية أساتذة الآداب القديمة والأندلسية والمحسنات البلاغية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى