مرميد يغرف من معين جدية وسخرية المخرج بنسعيدي في “الثلث المليء”
دقائق طويلة من التصفيق بعد انتهاء عرض شريط “الثلث الخالي” بمسرح الكروازيط، الذي يستقبل أفلام فئة “أسبوعي السينمائيين”. أياد كثيرة تتقن التصفيق، لكننا نحتاج حاليا الأيادي التي تكتب. التصفيق وحده مُمل ومرهق..
“ثلث خال، وثلث مليء وثلث سأمنح من خلاله عيني فرصة مشاهدة ثانية لفيلم بنسعيدي”.
تأتي جملة الربط، التي يعطيها كاتب ركن الحق في أن تتصدر نصاًّ يوافق طريقة اشتغال مخرج على شريطه. تلك اللحظة الفارقة التي يقرر خلالها فوزي بنسعيدي الحالي أن يزور مجدداً أسلوب فوزي بنسعيدي في بداية الألفية.
هي المرحلة التي تؤرخ لبداياته، في شريطه الطويل الأول “ألف شهر”. انتظرنا نحو مائتين وأربعين شهراً لمشاهدة كاميرا بنسعيدي تعود لتلتقط جمالية الفضاءات الشاسعة، بهدوء مستفز ومستهتر، وصاخب في بعض الأحيان. ترك فوزي بنسعيدي خلفه المجال الحضري الذي احتضن غالبية أعماله الأخيرة، وأفلت من سطوة الفضاءات المغلقة، مانحاً شخصياته فرصة التحرك في فضاءات مفتوحة، صورها بإتقان وبأسلوب يقترب من ذلك الذي اعتمده في “ألف شهر”.
جدية وسخرية فوزي بنسعيدي حضرتا في أحلك الفترات القاسية التي تحملها أحداث شريط “الثلث الخالي”. شريط برأسمال زمني يناهز ساعتين وست دقائق، وهو إنتاج مشترك مغربي وفرنسي وألماني وبلجيكي. لغة سينمائية ساخرة لفوزي بنسعيدي تصل أحياناً حد القسوة على القسوة، والاستخفاف بالفقر والعوز والحاجة وبقية الحقول الدلالية الدالة على قصر ذات اليد.
هي سخرية بنسعيدي التي تقترب من تلك التي رأينا مثيلاً لها في “الزمن الباقي” لإيليا سليمان الذي حضر عرض أول أمس، ثم هناك جدية ترافق تحركات فهد بنشمسي وعبد الهادي الطالب، وشكلا ثنائياً بنى عليه المخرج مشروع استرداد قروض صغرى من مقترضين لا حول لهم ولا قوة. تنطلق معهما في رحلة البحث عن المال حيث يسكن الفقر، وجلب الموارد من جيب مستنزفين استنزف بعضهم كل أوراق الأمل.
“الثلث الخالي” رحلة، والرحلة نحو الجنوب تعيشها بلا ملل رفقة مهدي وحميد، ثم تدخل شخصيات أخرى على الخط. هاجر كريكع، التي يخرجها بنسعيدي من عوالم التلفزيون لتؤدي دوري سلمى وحادة في نفس الفيلم. كاميرا تتعقب الرحلة، وتتغزل بجمالية طبيعة تحتضن في الخلفية آلام ساكنة تقاوم الفقر، وتقاوم القهر من أجل البقاء، وتناضل بطريقتها من أجل الحب. في الفيلم يحضر ممثلون وممثلات اعتاد بنسعيدي الاعتماد عليهم مثل محمد الشوبي ونزهة رحيل وربيع بنجهيل وعبد الغني الصناك ومحمد حميمصة، مع مشاركة من إبراهيم خاي وزهور السليماني وعبد الله شيشا.
كل شخصية في الفيلم لا تشبه الأخرى إلا حين يتعلق الأمر بالتفنن في العبث. في فيلم بنسعيدي حتى شكل السيارة البسيطة التي تنقل مهدي وحميد تتغير بتغير وضعهما من الهزل للسوداوية، وتختفي حين تضيق السبل، وتعود لتظهر حين يرغب المخرج في إنهاء جولته. في “الثلث الخالي” يصور بنسعيدي القرى التي تحتضن أشخاصاً يصرون على البقاء من أجل البقاء، ويصور الصحراء المغربية، ويجعلك تطمئن بأن ويلز وسكورسيزي وريدلي سكوت وهيتشكوك ليسوا الوحيدين القادرين على نقل جمالية صحرائنا لعيوننا. هناك مخرج مغربي يمكنه، بدوره، أن ينقلك في جولته الميلونكولية، دون أن ينسى إمتاع عين المشاهد في طريقه نحو كشف استقواء الكائن الضعيف على الكائن المستضعف.
ثم ماذا بعد؟ ملاك مؤسسات للقروض تسخر أناساً بسطاء لجلب مال البسطاء، والفكرة هنا تعكس ما نعيشه في عالمنا الحالي من جشع ينسينا بأننا نهتم في بحثنا على المال بكل شيء وننسى الحياة. المال يتسلمه بشكل رمزي مهدي وحميد في آخر المطاف، وجزء منه سيصل ضمنياً لرواد الجشع. في رحلة البحث عن المال ندوس على إنسانية الإنسان، ونترك الثلث الخالي خالياً حتى من تلك العفوية التي يقتات منها الكائن الذي لا يتوفر إلا على إنسانيته السائرة في طريق الانقراض.
“ثلث خال، وثلث مليء، وثلث سأمنح من خلاله عيني فرصة مشاهدة ثانية لعالم بنسعيدي”.
لو كان بنسعيدي يقحم بعضاً من البهارات التي يبحث عنها بعضٌ من مبرمجي المهرجانات الكبرى لكان الآن في المسابقة على السعفة الذهبية. هو لا يحتاج هذه البهارات، وشريطه الذي يترك المشاهد تائهاً في بعض الأحيان، فيه كثير من وضوح ممزوج بكثير من غموض. شريطه سيفتح نقاشات كثيرة، ولحسن الحظ أن فوزي بنسعيدي عاد لصور المساحات الشاسعة، لأنه يترك من خلالها مساحة واسعة لخيال المشاهد.
هو سينمائي يتقن أسلوب التنافر، ويمنح نفسه الحق في ربط علاقة شرعية بين الهزل والسوداوية. هو مخرج له سينماه، وسينماه تمنحني الفرصة لكي أخط أركاناً عديدة. هو ركن أول، وستأتي أركان أخرى لاحقاً.
أنا أصلا مجبر على اقتراف فعل الكتابة، لأن منتسبين كثرا للسينما يحضرون العروض، ولا أدري حقّاً هل سيكتبون. ماذا سيكتبون أصلاً؟ هل سيستوعبون؟ المساكين، هم فقط حائرون، ويتساءلون. هم دائما يتساءلون، وللأسف الشديد لا رأي لهم. حتى حين يكونون رأياً، تسعفهم الكأس، لكنهم لا يتوفرون على العِبارة. هنيئاً لفوزي بنسعيدي الذي قدم ويسترن تتناوب على قيادته السوداوية والشاعرية، وبالتوفيق لي ولكم ولكل الحائرين المتسائلين، والسلام.