كتاب يناقش اضطرابات عصبية في المغرب
يندرج كتاب “تشخيص اضطرابات النمو العصبي في المغرب.. بحث ميداني”، الصادر عن مكتبة سلمى الثقافية بتطوان في ماي 2023، ضمن باقة من الإنتاجات العلمية الرصينة الموجهة إلى اضطرابات النمو العصبي في المغرب؛ وذلك بعد صدور كتاب “عسر القراءة أو الديسليكسيا الولوجيات البيداغوجية” و كتاب “اضطراب تشتت الانتباه مع فرط الحركة أو بدونها الولوجيات البيداغوجية”.
يتكوّن الكتاب من 236 صفحة من الحجم المتوسط، وتم تقسيمه إلى أربعة فُصول متكاملة؛ فقد خُصص الفصل الأول للإطار العام للبحث، ثم بعد ذلك تم في الفصل الثاني تَحْديد الجهاز المفاهيمي وفق المرجعيات الدولية في هذا الشأن، وعرض الفصلان الثالث والرابع الدراسة الميدانية من حيث الأدوات والمعايير ومنظور الأسر والنتائج المتوصل لها مرفقة بتوصيات وبالعديد من الجداول والرسوم التوضيحية والأشكال المساعدة على التفسير.
إن هذا الكتاب يَعْرِض ثمرة بحث ميداني منجَز، توخى تبيان منظور أسر أطفال ومراهقين مغاربة، ذوي اضطرابات في نموهم العصبي، بعد سلوك مسار تشخيص حالة أبنائهم، من ذوي اضطراب طيف التوحد، وذوي اضطراب التعلمات النوعي، بالإضافة إلى التعرف قبْلا على بعض أدوات التشخيص الرسمية في المغرب. ومن المعلوم أن أعراض اضطراب طيف التوحد تختلف عن أعراض اضطراب التعلمات النوعي. كما أنه غدا من الممكن اليوم، في ظل التطور المفاهيمي لاضطرابات النمو العصبي، أن يقترن الاضطرابان معا لدى نفس الشخص.
ولا يهدف هذا البحث إلى المقارنة بين تشخيص اضطراب طيف التوحد، وتشخيص اضطراب التعلمات النوعي في السياق المغربي، بل يرومُ تعرف منظور الأسر المغربية المذكورة إلى صيرورة تشخيص الاضطرابين معا، ومن خلالهما اضطرابات النمو العصبي.
إن الكشف والتشخيص الصحيحين والمبكرين، باستخدام أدوات مقننة موثوق بها، أمر بالغ الأهمية؛ لأن ذلك يسمح بضبط بالمشكلة عند الطفل والمراهق، وتحديد نقط القوة ونقط الضعف، وأساليب العلاج والتدخل وأشكال المواكبة، في هذا الإطار.
وجديرٌ بالذكر أنه في “الدليل التشخيصي والأخصائي الخامس”DSM5، و”التصنيف الدولي للأمراض الحادي عشر”CIM11، تختلف المعايير المعتمَدة في تشخيص اضطراب طيف التوحد عن تلك المعتمَدة في تشخيص اضطراب التعلمات النوعي؛ ولكنهما يخضعان معا لمسار منهجي صارم، ويهدفان إلى فهم أعمقَ لميكانيزمات اشتغال الطفل والمراهق ذهنيا ووظيفيا، مع تكييف البِيئة الأسرية والمدرسية والاجتماعية، بما يجعلها منسجمة مع تنوعهما.
وتؤكد الوثائق الرسمية في المغرب أن ذلك التشخيص شأن طبي. وفي مجال اضطرابات النمو العصبي، ترى التصنيفات الدولية؛ مثل DSM و CIM، أن وضع فرضيات التشخيص، الموجهة إلى اتخاذ قرار سليم، تقتضي لزاما الانفتاح على مجموعة من التخصصات الطبية وشبه الطبية والتربوية والاجتماعية، في إطار فريق متكامل التخصصات؛ قصد التوليف بين ضبط العوامل المسببة للاضطرابات من جهة، وبين إمكانات الطفل، وقدراته على التكيف، وموارده المعرفية والمهارية، بالإضافة إلى تحديد حاجاته، من جهة ثانية.
وحاليا، تَعْرف الساحة المغربية إقبالا واضحا على كشف صعوبات التعلم داخل المدارس، وتشخيصها. وتقبل أسر الأطفال ذوي اضطرابات النمو العصبي على تشخيص حالات أبنائها من ذوي اضطراب طيف التوحد، أو ذوي اضطراب التعلمات النوعي؛ لغايات وأهداف مختلفة. وتشارك في العمليتين معا العديد من الأطر الطبية وشبه الطبية والتربوية، وتوظف فيهما أدوات ووثائق إدارية تُعبأ وَفق شروطٍ، بعضُها محدد مسبقا.
إن البحث انطلق من الإشكالية المحورية الآتية: ما واقع سيرورة رصد وكشف وتشخيص اضطرابات النمو العصبي عند الطفل والمراهق في المغرب من منظور الأسر (اضطراب طيف التوحد واضطراب التعلمات النوعي أنموذجين)؟ وتفرعت منها تساؤلات فرعية؛ أبرزها ما يأتي: ما هي معالم سيرورة رصد اضطرابات النمو العصبي في المغرب، وكشفها، وتشخيصها؟ وما هي أهدافها؟ وما هي أدواتها؟ وما مدى وُثوقِيتها؟ وما مدتها الزمنية؟ وأين تتم؟ ومَنِ المتدخل فيها؟ وكيف يتم الإعلان عن الاضطراب؟ وما هي أنواع المواكبة في هذا الصدد؟ وأين تُستثمَر نتائج التشخيص؟ ومَنِ المُنتفِع، ومَنِ المتضرر مِنْ إضفاء الطابع الطبي على صعوبات مدرسية قابلة للتجاوز تربويا وبيداغوجيا؟
وتتمثل أهداف هذا البحث الرئيسة في الآتي:
ـ أهداف نظرية: وتتجلى أساسا في تعرف ماهية “اضطرابات النمو العصبي” ومميزاتها؛ وفي تعرف مفهوم “التشخيص”، وأهم أنواعه، وكذا المتدخلين فيه، وسيروراته في مجال اضطرابات النمو العصبي؛ وفي تعرف معايير تشخيص اضطراب طيف التوحد واضطراب التعلمات النوعي، وبعض أدواتهما ومميزاتهما وحدودهما التطبيقية في السياق المغربي، وبعض مجالات التدخل والمواكبة والتشخيص التفريقي.
ـ أهداف عملية: وتتجلى في تعرف بعض الأدوات الرسمية المعتمدة في سيرورة التشخيص في المغرب، وتبيان حدودها معرفيا ومنهجيا؛ وفي وصف واقع تشخيص اضطرابات النمو العصبي في المغرب من وجهة نظر الأسر، ومحاولة فهم وتفسير الأسباب التي تدفع الفاحصين إلى اعتماد مسارٍ ما في سياق كشف وتشخيص اضطرابات النمو العصبي في المغرب.
ولتحقيق هذه الأهداف، والإجابة عن التساؤلات المطروحة، اعتُمِد منهج وصفي تحليلي؛ بحيث تم تحليل الوثائق الرسمية المعمول بها للاستفادة من أشكال التكييف المنصوص عليها في المذكرات الوزارية، والملفات الطبية المعتمدة في تصنيف الإعاقة، الواردة في المواقع الرسمية للجهات المعنية. هذا بالإضافة إلى اعتماد أداة ناجعة عبارة استمارة إلكترونية، تم توجيهها إلى أُسر الأطفال ذوي اضطرابات النمو العصبي، بعد بنائها وتحكيمها من لدن مختصين في الميدان وأساتذة جامعيين وممارسين مهنيين، علاوة على عقد جلساتٍ مع أسر وجمعيات وأطر خبيرة في مجال الدمج المدرسي.
وقد بلغ حجم العينة المستجْوَبة100 أسرة، نسبة الأمهات فيها ناهزت 71 في المائة، في حين بلغت نسبة الآباء حوالي15 في المائة، ونسبة الأبويين معا في المائة، وذلك بعد انصرام أكثر من شهر على الإعلان عن الاستمارة. وبالنسبة إلى الأطفال، فإن نسبة الذكور الموجهين للتشخيص منهم هي 80 في المائة، ونسبةَ الإناث هي 20 في المائة.
وبخصوص أعمار الأطفال، فإن الذين تتراوح أعمارهم ما بين 6 سنوات و12 سنة تبلغ نسبتهم60 في المائة ، في حين أن الذين من عُمْر 13 سنة فما فوق تبلغ نسبتهم35 في المائة ، ونسبة 5 في المائة عُمْرُهم أقل من 5 سنوات.
ثم إن 46 في المائة منهم يتابعون تعليمهم بالمدارس الابتدائية، و14 في المائة منهم غير متمدرسين، ونسبة8 في المائة لهم مستوى التعليم الأولي، في حين أن 32 في المائة يتابعون دراستهم في الثانوي الإعدادي. وبالنسبة إلى صنف التعليم، فإحصائيات المعطيات المجمعة كالآتي: 47 في المائة في التعليم الخصوصي، و37 في المائة في التعليم العمومي، وما يناهز 8 في المائة في الجمعيات أو في المراكز الخاصة. وتحضر، ضمن العينة المبحوثة، كذلك، نسبة من الأطفال والمراهقين الذين يتابعون دراستهم بشكل حُر.
وفي ختام الدراسة الميدانية المنجزة، فقد أكدت نتائج البحث أن غياب اعتمادِ مرجعية علمية رسمية للكشف والتشخيص، على المستوى الوطني، في مجال اضطرابات النمو العصبي، وسيرورةٍ منهجية واضحة، واختباراتٍ مقننة كميا وكيفيا، أفضى إلى ابتعاد عمليات الكشف والتشخيص الحالية عن أهدافها الوظيفية، لتُختَزَل في الاستجابة لحاجات إدارية يصعب معها مساعدة الطفل والمراهق على تصحيح مساريْ نموهما، وجعْلهما على درايةٍ بقدراتهما التي تكمنُ وراء الأعراض، وتنشيط تفاعلهما في البيئة الاجتماعية والتربوية التي يعيشون فيها…
وبعد ذلك، خرجت الدراسة بجملة من الاستنتاجات والاقتراحات والتوصيات، منها:
ـ الدعوة إلى تحيين الجهاز المفاهيمي والوثائق المعتمدة في هذا الصدد، وإلى توحيدهما في إطار سيرورة تشخيص اضطرابات النمو العصبي، سواء منها اضطراب طيف التوحد أو اضطراب التعلمات النوعي؛
ـ الدعوة إلى إرساء بروتوكول موحد بين جميع الأطباء والأخِصائيين والقطاعات المتدخلة في كشف اضطرابات النمو العصبي، وتشخيصها؛
ـ التنبيه إلى ضرورة بناء أدوات رصد وكشف اضطرابات النمو العصبي مبكرا، مع الحرص على تنويعها، بما يمكن من توظيفها في مؤسسات التعليم الأولي أو الابتدائي، أو من قبل التخصصات الأخرى، قبل الإحالة على باقي مراحل التشخيص؛
ـ الحاجة إلى تشييد مراكز تشخيص، محلية وإقليمية وجهوية، بفرق طبية وشبه طبية، ذات تكوين متين في مجال اضطرابات النمو العصبي، ومتحكمة في أدوات واختبارات موثوق بها تناسب السياق المغربي؛
ـ لفت الأنظار إلى أن المعايير المعتمدة حاليا لتعبئة ملف الإعاقة في اضطراب طيف التوحد واضطراب التعلمات النوعي بوزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة لا تناسب المستجِدات العلمية في هذا المجال، وأن الدعوة إلى اعتمادها من شأنه أن يعمق أخطاء تشخيص اضطرابات النمو العصبي عند الطفل والمراهق ويشجعَ بعض الجمعيات على اعتماد أدوات غير مقننة في مراحل الكشف. وكل هذا يدعو إلى المراجعة وإعادة النظر فيه؛
ـ الكشوفات والتشخيصات التي تجرى حاليا، بشكل متباين وغير منتظم، لا تمكن الأسر من فهم اضطرابات النمو العصبي ولا تعرف تأثيراتها على حياة الطفل والمراهق؛
ـ الدعوة إلى وضع إطار تشريعي يحصل بموجبه التنسيقُ بين الجهات المتدخلة في التشخيص على مستوى القطاعات والأدوات والمفاهيم في تشخيص اضطرابات النمو العصبي؛
ـ الدعوة إلى تحيين التشريعات والقوانين الزجْرية المنظمة والمحددة لأخلاقيات ومرجعيات الكشف والتشخيص، وتفعيلهما، وحماية لسلامة الطفل والمراهق وأسرتيهما من التطفل والتسرع وعدم التمكن من منهجيات صيرورة الكشف و التشخيص، ومن أدواتهما الإجرائية؛
ـ الدعوة إلى توفير مجانية التشخيص، مع جودته، ومواكبة الأطفال والمراهقين من ذوي اضطرابات النمو العصبي وأسرهم بالدعم النفسي والاجتماعي؛
ـ الدعوة إلى استحداث تخصصات أكاديمية، ومسالك جامعية؛ من أجل تكوين أخصائيين مؤهلين للاشتغال في هذا المجال، مع إعداد دفاتر تحملات للمراكز الخاصة بالتكوينات شبه الطبية، منسجمة مع خصوصيات الطفل والمراهق المغربي في مجال اضطرابات النمو العصبي، ومستنِدة إلى مرجعيات مؤكدة علميا، وتم التحقيق من جدواها ميدانيا في مجال كشف اضطرابات النمو العصبي، وتشخيصها؛
ـ الدعوة إلى تكوين الأساتذة؛ لتطوير أدائهم البيداغوجي في مجال الارتقاء بمكتسَبات الأطفال ذوي اضطرابات النمو العصبي، وفي منهجيات التكييف، وملاءمة التعلمات والاختبارات، والانخراط في المشاريع الفردية.
وفي النهاية، يجْمُل بنا التذكير بأن الكشف والتشخيص حق، وسيرورة، وأخلاق، وقيم، ومُخْرَجات فريق متكامل التخصصات، وتجدد دائم. وإذا تحول إلى تسرع، وأسند إلى غير أهله، فإنه لا يمكنه أن يحقق أهدافه، المتمثلة أساسا في بناء المشروع العلاجي والتربوي والبيداغوجي القمين بمساعدة الأطفال والمراهقين من ذوي اضطرابات النمو العصبي على الاندماج الشامل وعلى بناء استقلاليتهم. ويشار، كذلك، إلى أن هذا العمل قدم له مشكورا الدكتور الغالي احرشاو، من مختبر الأبحاث والدراسات النفسية والاجتماعية بجامعة فاس، وحكم استمارته الدكتور فريد أمعضيشو وفريق من الأخصائيين والممارسين، وراجَع لغته أساتذة جامعيون من تخصصات مختلفة، وشارك في تعبئة استماراته ثماني جهات من المغرب.. أتقدم إليهم جميعا بوافر الشكر على إسهامهم القيم ذاك، وأهدي العمل إلى خاتمة العقد؛ ابنتي “نرجس”، التي كانت، ذات يوم، جزءا من هذه السيرورة العَصِية على الوصف.