المفكر صالح الحصين ورؤيته عن الوطنية السعودية
ومما قال الحصين للحضور ثم كتبه عن أسس الوطنيات التي تُسهِّل الصياغة: «إذا كان مفهوم (الوطنية) في العالم ليس واحدا ويختلف بين دولة وأخرى، وإذا كان لإيديولوجية (الوطنية) الأثر الشامل والعميق على الحياة العامة والخاصة على النحو الموضح أعلاه، وإذا كان لتصور هذه الأيديولوجية ومفهومها أبلغ الأثر على الوحدة الوطنية، والوعي بها، والغيرة عليها، والعمل من أجلها، أو ضدها، فإن هذا يبرر القول أن من أهم المهمات العناية بصياغة تصور مفهوم واضح ودقيق وصحيح (للوطنية السعودية)؛ بحيث ينبني على هذا المفهوم أساس، ويتكون منه وعليه رأي عام، وتبني عليه وزارة التربية والتعليم منهج التربية الوطنية ومقرراته، وتصاغ بناء عليه الكتب المدرسية لمادة التربية الوطنية، وهذا هو ما تهدف إليه هذه الورقة». (الحصين: اقتراح لصياغة مفهوم للوطنية السعودية).
وهو بهذا الطرح السابق لا يقدم صياغة جاهزة في البداية بقدر ما يقدم (الأسس المهمة) لأي وطنية في العالم، وهي الخصوصيات والأيديولوجيات -كما سبق-، ثم (متطلبات الصياغة) التي يصل إليها في النهاية بمقترح، كما أنه لا يطرح بهذه الورقة رؤية أو نظرية غير قابلة للتطبيق، بل إنه يطرح بتواضع فكري وتأصيل علمي وواقعي ما يتم به تجاوز العوائق من خلال الاستفادة من تجارب العالم الإيجابية والسلبية، ليفتح مجال المقارنات بين الصيغ ومدى تحقيقها للمتطلبات الأساسية للوطنية السعودية، وقد عبَّر عن هذا بقوله: «لضمان اختيار مفهوم للوطنية السعودية أقرب إلى الوضوح والدقة والصحة، ينبغي قبل ذلك إيجاد مفهوم مجرد مثالي للوطنية، ليكون مقياسا للمقارنة، تقوم وتقاس به صحة ووضوح أي مفهوم آخر للوطنية، لذا أقترح أن يبنى هذا المفهوم المجرد على متطلبات ضرورية تستفيد من الوعي بإيجابيات إيديولوجية الوطنية (Nationalism) وسلبياتها في تجارب العالم. ويكون هذا المفهوم المثالي المجرد مقياسا يتم وفقا له تقييم بدائل الاقتراحات التي تقدم من المهتمين بصياغة مفهوم (الوطنية السعودية)، لكي يمكن اختيار الصيغة الأفضل من بين هذه البدائل أو اختيار صياغة من مجموعها» (المرجع السابق).
والحصين يطرح هذه القضية المفتوحة للنقاش، بالرغم من كونه يرأس هذا الاجتماع المعني بالصياغة، وهو من كان يرأس مركز الحوار الوطني ذاته، كما أنه في نفس الوقت يطرح رأيه العلمي حول هذه المسألة بتجرد العالم المفكر الواثق بما لديه، وبالرغم من قناعته بما يطرح هو إلا أنه يرى بأنه يقدم مقترحا عاما صالحا للنقاش والحوار، ورؤيته التي يطرحها هنا يختصر فيها الوقت والمسافات الفكرية، بأن أي صياغة للوطنية السعودية لا بد لها من معايير أو ضوابط محددة سماها هو (متطلبات أساسية) للصياغة، مكرراً أهمية النظر المتفحص بأن الوطنيات لدى الدول قوامها وأساسها الأيديولوجية -أيا كانت هذه الأيديولوجية- التي تحولها إلى قوة ووحدة وتماسك وولاء.
– متطلبات الصياغة الأساسية:
يحرص المفكر -أي مفكر- على الإقناع العلمي لموضوعه بذكر محددات، أو ضوابط ومتطلبات، والحصين يترك المساحة مفتوحة لأي إنسان معني بصياغة مفهوم الوطنية، لكن بشرط تحقيق المتطلبات السبعة اللازمة وعدم الخروج عنها، والتي يقول عنها: «أقترح أن يستجيب هذا المفهوم المجرد لسبعة متطلبات أساسية:
1- أن يكون عقلانيا، لا بمعنى فقط أن لا يخالف العقل، بل أن يكون العقل يقتضيه.
2- أن يكون واقعيا، لا بمعنى أن لا يخالف الواقع فقط، وإنما أن يكون الواقع يقتضيه.
3- أن يكون قابلا للأدلجة، بناء على أن الفكرة تبلغ قمة تأثيرها عندما تتحول إيديولوجية (عقيدة).
4- أن يتوافر له الانسجام بين عناصره وبينه وبين البيئة الخارجية.
5- أن يتصف بالثبات والاستقرار.
6- أن يتصف بالاعتدال والتوسط فلا يسمح بالتقوقع والانكفاء على الذاتية، ولا يكون قابلا للتحلل والذوبان وضعف الهوية، وتآكلها، أو انعدامها.
7- أن يتوافر له الحصانة أو المناعة في مواجهة الأمراض الاجتماعية التي تصاحب غالبا إيديولوجية الوطنية، مثل الشوفيونية أو العنصرية أو الخوف الوهمي من غيرنا، أو العدوانية ضد المهاجرين» (المرجع السابق).
والحصين بعد هذا التعداد والبسط العلمي المختصر للمتطلبات الأساسية، ينتقل إلى إسقاط الموضوع بأسسه ومتطلباته على الوطن السعودي مبتدئا بما يراه العنصر المهم والأهم، حيث العقلانية والواقعية والأدلجة في الثلاث من المتطلبات الأولى التي تتوافق مع خصائص الإنسان والمكان، كما أنها لا تتعارض مع الجانب الدولي، وتتوافق مع أُسس الخصوصيات والأدلجة، وهي الجوانب التاريخية والجغرافية لخصائص الجزيرة العربية، ومع تاريخ الدولة السعودية كأبرز الخصائص، وهو ما يجعل للوطنية قوة عقدية سياسية تتفوق بها على كثير من دول العالم في هذا الجانب، حيث يتكوَّن الولاء والنصرة لهذه الدولة ليس من داخل حدودها الجغرافية فحسب، بل من كل مسلم في العالم، حينما تتحقق المتطلبات سابقة الذكر، فرابطة الدين تعد قوة سحرية غير مُكْلِفة تفتقر إليها كثير من الدول التي تدفع ميزانيات مالية كبيرة لكسب الولاء.
– تحديات ثانوية:
الحصين مع هذا لا ينسى أبرز الجوانب الشائكة عند بعض التوجهات الفكرية وعند ذوي الثقافات الثانوية في أي وطن، وهو الذي ربما يُثار حول ما إذا كانت بعض هذه المتطلبات والتطبيقات تتعارض مع تلبية حقوق الأقليات في الإسلام! أو تتصادم مع النظم العالمية والقوانين الدولية، لكن الحصين في الوقت ذاته يشير في ورقته العلمية المعنية بالمقترح لصياغة مفهوم الوطنية السعودية، بأن هناك خصائصَ وقِيماً، وثوابت دينية وتاريخية لا يمكن التخلي عنها، وهي ما يمكن التعبير عنها بالهويات، ولابد من الالتزام فيها لتحقيق هذا المفهوم والمصطلح، لا سيما أن خصوصيات الأمم والدول الجغرافية والتاريخية هي ما تصنع وطنياتها، والسعودية واحدة من دول المعمورة التي من خصائصها الجغرافية والتاريخية ما يرتبط بخصائص جزيرة العرب وارتباط هذه الجزيرة بأمة الإسلام عبر التاريخ، وعن هذا كتب فقال: «يلاحظ بتكرار تأمل هذه الصياغة لمفهوم الوطنية السعودية استجابتها للواقع المتمثل في خصائص بلادنا (الإنسان والمكان)، فلا يمكن إغفال ما اختصت به بلادنا حقيقة أنها منبع الإسلام ومركزه، يتجه إليها في صلواتهم ربع سكان الكرة الأرضية وتضم أقدس مقدساتهم، ويشعرون بالولاء لها والغيرة عليها شعورا يصل لدى كثير منهم مستوى يفوق مثيله من الشعور تجاه أوطانهم التي نشؤوا فيها ويحملون جنسيتها». (المرجع السابق).
والحصين لم يتجاهل ما يثار عن حقوق الأقليات، وكيف عالجته شريعة الإسلام، ودون التاريخ والمؤرخون من المسلمين والمنصفين من غير المسلمين نماذج مُشرقة من التعاطي مع الأقليات التي حفظ لهم دين الإسلام الوجود والبقاء حتى العصر الحاضر، ومما قال عن هذا: «وفي الوقت الذي حافظ فيه المسلمون في كل العصور وفي كل الأقطار، في ظل سلطانهم، على مبدأ التعايش مع الديانات المخالفة للإسلام بصورة من التسامح لا يبلغ مستواها بلد آخر في العصر الحديث، فمنحوهم حرية العبادة وحموا معابدهم وأعطوهم الحق في أن يكون لهم قوانينهم الخاصة ومحاكمهم الخاصة، وأن يستثنوا من القانون الجنائي الإسلامي العام، بمعيار أن لك فعل لا يعتبر في ديانتهم جريمة فلا يعتبر جريمة في حقهم وإن كان جريمة في حق المسلمين، في الوقت نفسه حافظ المسلمون إطاعة لأمر دينهم في كل العصور على استثناء الأرض التي تشمل ما كان يعرف في القرون الأولى من التاريخ الإسلامي بمكة ومخاليفها (توابعها الإدارية)، والمدينة ومخاليفها، واليمامة ومخاليفها، أي حدود المملكة العربية السعودية الحالية تقريبا، فهذا الجزء من الأرض حرم على الأديان الأخرى المخالفة للإسلام الإقامة الدائمة فيه سواء في صورة شخص، أو معبد أو مركز دعوة». (المرجع السابق).
– النتيجة والصياغة المقترحة:
ينتقل الحصين بورقته المعنية من الأُسس المهمة والتشخيص والخصائص والمتطلبات إلى صياغة المقترح، مما يجعل صياغة الوطنية السعودية أمرا سهلا وميسورا ومتحققا في عالم الواقع عند الأخذ بمقترحه، وتتضاعف الأهمية أكثر لهذه الصيغة عند تزاحم الثقافات، ومحاولات إضعاف الهويات، فيقول عن الصياغة: «تعني الوطنية السعودية: ارتباط الفرد بالجماعة الكبرى، التي يقيم أفرادها على أرض المملكة العربية السعودية ويخضعون لسلطان قانوني واحد، ارتباطا يقتضي الالتزام نية، وقولا، وعملا، بالقيم الخلقية الآتية:
الأخوة والموالاة، والتواصي بالحق وبالصبر وبالرحمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمساواة -مساواة التكامل (التي تنفي حمية الجاهلية)- والشورى، والتكافل، والتواد والتراحم، والاعتدال (المنافي للإمعوية والفردية والرافض للتقوقع والأنانية والتفريط غير المبرر في الهوية) ولزوم الجماعة وعدم الشذوذ عنها أو الخلاف عليها، والطاعة بالمعروف لولي الأمر وللقانون السائد، والنصيحة بمعنى سلامة القلب من الغش وانطوائه على الإخلاص والصدق والعزم على الخير وتحصيله، ودفع الشر وتفويته، والجهاد لحماية مصلحة البلاد (الجامعة والأرض) ببذل التفكير والقول والعمل والمال والتضحية بالنفس عند الاقتضاء». (المرجع السابق).
والحقيقة أن هذه المحاولة من المفكر الحصين لموضوع تتجاذب فيه المفاهيم والمصطلحات بين مفهومي الأمة والوطنية وبين الآراء والآراء المخالفة، كان هدية مُثلى لبلاده، لا سيما في ظل الأحوال الدولية المعقدة والمترابطة بالقوانين والنظم الدولية -التي تفرض الواقعية-، بالرغم من أن الغرب يمارس الأممية من خلال فرض قيم العولمة الغربية ومنظماتها، ومن خلال ما يُسمى بحق كثير من الغربيين (المواطنة العابرة للحدود القومية) كما هو الحال في أمة أوروبا ووحدتها! والمهم أن الأقوى في موضوع الوطنية السعودية هو أن الخصوصية والأيديولوجيا لكل بلد في المعمورة هي أساس صناعة وطنيته، وإلا كان العالم بقاراته ودوله وطنا واحدا!
والخصوصيات قد تكون تاريخية أو جغرافية أو دينية أو أعراقاً جامعة أو لغة مشتركة، وببعضها أو بها جميعاً تتكون الوطنيات للدول كافة، وهذا ما يمنح إمكانية تحقيق المقترح. وبالله التوفيق.