20 سنة على تفجيرات 16 ماي .. “سيدي مومن” يتحدى التهميش وصناعة الموت
كان الإرهاب بعيدا عنا، لكن في السادس عشر من شهر ماي 2003 صار بيننا. تفجيرات سلبت العشرات الحق في الحياة وأظلمت شظاياها سماء القلب النابض للمملكة، الدار البيضاء.
شبان في مقتبل العمر خرجوا من الحي الهامشي سيدي مومن، حيث الوضع الاجتماعي متدهور، ودور الصفيح منتشرة في كل مكان، وقد أغشى الجهل بصيرتهم لسفك دماء الأبرياء.
بعد 20 سنة، نعود لنقطة البداية بسيدي مومن، لنلقي الضوء على ما تغير وما لم يتغير، في مواجهة التهميش وصناعة الموت.
ليلة الفاجعة
يوم الجمعة 16 ماي 2003 ألقوا النظرة الأخيرة على “كاريان طوما” بقلب سيدي مومن في الدار البيضاء..غادروا البراريك وتوجهوا صوب الموعد المشؤوم، تنفيذ مخطط إرهابي هز العاصمة الاقتصادية واهتزت معه القلوب.
ليلة الجمعة، ستهتز مناطق بالدار البيضاء على وقع تفجيرات مدوية ومتزامنة، مخلفة قتلى وجرحى ومعطوبين؛ تفجيرات طالت الفندق المصنف “فرح” بقلب شارع الجيش الملكي، ومطعما إسبانيا معروفا باسم “Casa de España”، والمقبرة اليهودية، المركز الاجتماعي اليهودي، ثم مطعما إيطاليا بمحاذاة القنصلية البلجيكية.
دماء في كل مكان، وسيارات إسعاف تجندت لنقل الضحايا إلى المستعجلات، وتعزيزات أمنية بمختلف التشكيلات تم إيفادها لحماية المدينة من تفجيرات محتملة.
وخلفت هذه الأحداث الإرهابية ما يزيد عن 40 قتيلا في أماكن متفرقة من المدينة، وما يقرب من 100 جريح، مع أضرار مادية كبيرة.
وخرج وزير الداخلية المغربي حينها، مصطفى الساهل، ليعلن في كلمة له عبر شاشة التلفزيون فتح السلطات تحقيقا وملاحقة المتورطين في الفاجعة.
حملة الاعتقالات طالت المئات من أبناء الحي الهامشي سيدي مومن، ومناطق متعددة، مع محاكمات زجت بالكثيرين منهم في السجون، ومازال عدد منهم وراء القضبان رغم مرور عقدين على الفاجعة.
اجتثاث البراريك
استفاق المغاربة والسلطات في اليوم الموالي للحادث الإرهابي على وقع الصدمة. لم يكن أحد يخال أن صور التفجيرات والأحزمة الناسفة التي تعوَّد على مشاهدتها بدول عربية سيراها قريبة منه بالمملكة.
أمام هذه الصدمة، بدأ التفكير في مواجهة الهشاشة والتطرف، لانتشال الساكنة المنسية بجنوب الدار البيضاء من براثين الفقر والتهميش والنسيان.
كان القضاء على دور الصفيح المنتشرة بهذا الحي، التي تحوي أسرا من مشارب عدة، الهاجس الأكبر للسلطات المغربية، بغاية تحسين ظروف عيش السكان.
قبل تفجيرات 16 ماي كانت سيدي مومن عبارة عن “دوار” كبير يحتوي على كاريانات منتشرة بمختلف أرجائه: طوما، زرابة، الرحامنة، الغالية، السكويلة، سيدي مومن القديم، دوار مزاب.
يوم 5 يوليوز 2007، تحركت السلطات، وبدأت عملية اجتثاث هذه البراريك، في إطار برنامج القضاء على السكن غير اللائق الذي انطلق مباشرة بعد الأحداث.
واستفادت سيدي مومن وفق المعطيات الرسمية من برنامج شمولي أطلق عليه “البرنامج الشمولي لتنمية سيدي مومن 2007-2010″، خصصت له ميزانية قدرت بحوالي 200 مليار سنتيم، نسبة كبيرة منها مخصصة للقضاء على دور الصفيح التي يقطنها ثلث سكان المقاطعة، إذ تم الشروع في منح بقع أرضية للمستفيدين قاطني “الكاريان”.
يورد رشيد باهي، واحد من أبناء أحد المستفيدين من السكن: “اليوم وضعيتنا أفضل. كنا داخل الكاريان نعيش وضعا صعبا”، مضيفا: “اليوم، مع هذه الاستفادة من الهبة الملكية، تحسنت وضعيتنا ولا يمكن إنكار أن اليوم أفضل من الأمس”.
بدوره، لم يخف محمد كمسي، من ساكنة كاريان طوما المستفيدة من السكن، أن الوضع يختلف تماما عما كان عليه في دور الصفيح، ويؤكد أن سيدي مومن، اليوم، تعرف تغييرات كبيرة في مختلف المرافق والبنيات التحتية.
مراكز تنموية
لم يقتصر انتشال ساكنة المنطقة على توفير سكن لائق يحفظ كرامتها؛ فقد عرفت سيدي مومن مع انطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005 مبادرات عدة قادتها فعاليات مدنية لملء الفراغ وتوفير فرص شغل لشبابها.
مراكز عدة جرى تدشينها عقب الأحداث الإرهابية، استطاعت استقطاب شبان كثر كانوا تائهين بعد مغادرتهم صفوف الدراسة، في غياب تكوين يعيدهم للطريق.
مركز سيدي مومن للتنمية واحد من الفضاءات التي شهدتها هذه المنطقة المنسية، واستطاعت أن تكون ملاذا لبعض الشباب.
عبد الحق الضاف، رئيس جمعية تسيير مركز سيدي مومن للتنمية، يؤكد أن الفضاء الذي تم تشدينه من طرف الملك محمد السادس سنة 2008 صار يشكل قبلة للعديد من أبناء المنطقة الراغبين في التكوين بعد فقدانهم الأمل في الدراسة.
ويوضح الضاف، في حديث لهسبريس، أن المركز يقدم خدمات في مجالات مختلفة للذكور والإناث، مع تكوين يساعدهم على الاندماج في سوق الشغل.
وفق رئيس الجمعية ذاته فإن هذا الفضاء، الذي يمنح شواهد تكوينية للشبان، يتيح للمستفيدين منه إمكانية إنشاء مقاولات خاصة بهم، كما يوفر لهم فرصة الاستفادة من القروض الصغرى لإنجاز مشاريعهم.
وبحسب الضاف دائما فإن هذا المركز لوحده استطاع منذ إنشائه تكوين 6 آلاف شاب وشابة، وزاد متسائلا: “تصوروا لو لم يكن هذا المركز، ما مصير هؤلاء الشبان؟”.
ولا تحتضن سيدي مومن مركزا واحدا بل مجموعة من المراكز، ضمنها المركز الثقافي والاجتماعي للقرب “إدماج”، الذي يعد نقطة ضوء بالمنطقة.
يقدم هذا المركز اليوم خدمات للأطفال والشباب والنساء، ويوفر فرصا للتعرف على ثقافات أجنبية، إذ يفد عليه مجموعة من المتطوعين الأجانب، خصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقدمون دروسا وتكوينات مختلفة.
وبحسب مدير المركز، بوبكر مازوز، فإن هذه البناية تستهدف على وجه الخصوص المتمدرسين، وتقدم لهم خدمات متنوعة في سبيل تطوير مهاراتهم المعرفية، ومنحهم فرصة التعرف على ثقافات متنوعة، إلى جانب منح النساء فرصة تعلم حرف يدوية ودروس في الطبخ.
ولا يخفي بوبكر مازوز التغيير الذي عرفته سيدي مومن منذ الفاجعة إلى اليوم. يقول الناشط الجمعوي: “أكيد هناك تغيير، عدد من المراكز تم تشييدها، ومؤسسات تعليمية عمومية وخصوصية، وطرقات ومراكز صحية أنجزت خلال 20 سنة”.
برامج انتشلت المقاطعة من التهميش
من عاشوا بسيدي مومن قبل الأحداث الإرهابية يدركون أن وجه هذه القرية النائية بجنوب الدار البيضاء قد طالته اليوم تغييرات وتحسينات حولته إلى مركز يستقطب مشاريع تنموية.
بنية تحتية تواكب النمو الديمغرافي، وخطوط للنقل عبر الترامواي تربط هذا الحي الهامشي بأعرق أحياء القطب المالي للمملكة.
وفق أحمد بريجة، الرئيس السابق لمقاطعة سيدي مومن، الذي عايش التغيرات بالمنطقة منذ الأحداث الإرهابية، فإن مشاريع عدة استفادت منها بناء على تعليمات ملكية.
ويؤكد المسؤول الجماعي والبرلماني الحالي عن المنطقة أن سيدي مومن استفادت من برنامج تنموي كبير، بدأ بمحاربة السكن غير اللائق، مرورا بالبنية التحتية والمرافق التي تحتاجها الساكنة.
ويقول بريجة :”خلال فترة رئاستي جماعة سيدي مومن سنة 2003 كانت مهمشة بشكل كبير، أراضيها كانت عبارة عن ضيعات فلاحية، لكنها اليوم، بفضل تدخل الملك محمد السادس، صارت أفضل، تتوفر على كل المرافق”.
وبحسب المسؤول ذاته فإن الورش الملكي الذي استهدف سيدي مومن مكَّن المواطنين قاطني دور الصفيح من سكن لائق، إذ استفادوا من بقع أرضية مجهزة، كما شيدت مجموعة من المرافق التي كانت بحاجة ماسة إليها.
ومع تزايد النمو الديمغرافي، والإقبال الكبير للمواطنين على السكن بهذه المنطقة، إذ انتقلت الساكنة من 35 ألف نسمة سنة 2004 إلى أكثر من 700 ألف نسمة اليوم، فإن سيدي مومن، بحسب بريجة دائما، تزايدت بها أعداد المراكز والبنايات والمستوصفات والمدارس.
ورغم كل هذا فإن الرئيس السابق للمقاطعة لا ينفي وجود خصاص قائم، يستدعي التدخل من طرف مختلف المصالح لمواجهته، وهو ما ستتم برمجته، بحسبه، في برنامج عمل جماعة الدار البيضاء، وبرنامج عمل مجلس العمالة وبرنامج عمل جهة الدار البيضاء سطات.
رقابة أمنية
بالموازاة مع مبادرات السلطات في محاربة الهشاشة بسيدي مومن، لم توقف المصالح الأمنية معركتها ضد التطرف والخلايا الإرهابية النائمة.
ووفق إحصائيات رسمية قدمها مدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية لهسبريس، تم تفكيك 90 خلية إرهابية منذ إنشاء المكتب.
إحسان الحافظي، الباحث في الشؤون الأمنية، يرى أن تقييم المقاربة التي اعتمدتها المملكة في مواجهة ظاهرة الإرهاب يمكن وصفه بالإيجابي، على اعتبار أنها اعتمدت مجموعة من العناصر الأساسية، سواء على مستوى التعاطي السوسيو-اقتصادي أو على مستوى إعادة إدماج الأشخاص الذين سبقت إدانتهم، ثم على أساس المقاربة الأمنية الوقائية.
بالنسبة للخبير الأمني ذاته فإن هذه المقاربة المغربية نجحت في الحد من تمدد الظاهرة، مشيرا إلى أن المشرع المغربي ساهم بدوره في ذلك من خلال مصاحبة الظاهرة وتحولاتها عن طريق إدخال تعديلات على مسطرة الجنائية.
ويؤكد الحافظي أنه بالنظر إلى هذا التراكم “يمكن القول إن صح التعبير إن التجربة المغربية قابلة التصدير، بالنظر إلى حجم الشراكات المبرمة مع مختلف الدول الغربية والعربية”.
ويخلص الباحث نفسه إلى أن المغرب نجح في مواكبة تحولات الظاهرة الإرهابية والحد منها، وإعطاء نفس قانوني وحقوقي في التعاطي معها.
مناشدة الإفراج عن المعتقلين
بين جهود السلطات ويقظة الأمن، يعود ملف المعتقلين وأسرهم مع ذكرى أحداث السادس عشر ماي إلى الواجهة. معتقلون مازالوا ينشدون الإفراج، وأسر تنتظر عفوا ينسيها سنوات من الألم.
ولجنا منزل أسرة أحد المعتقلين القابعين في السجن على خلفية هذه الأحداث. أم طاعنة في السن تنتظر خبرا مفرحا، وأب لم يعد قادرا على الحديث عن ملف ابنه.
تحكي شقيقة المعتقل: “نحن من حكم علينا بالمؤبد، نحن من نوجد في السجن”، ثم تضيف: “منذ تلك الفترة ونحن نعاني وننتظر خبرا عن شقيقي”.
كما قالت المتحدثة ذاتها: “إنه لا يتواصل معنا كثيرا، لكنه في كل مرة تحدث لنا يؤكد أنه لم يقترف جرما ولم ينفذ العملية الإرهابية”، وتضيف: “حتى ولو كان شقيقي يحمل فكرا متطرفا فقد تراجع عنه في الحين، إذ رمى الحقيبة التي كان يحملها قبل تفجيرها”، مؤكدة أنه يخاطبها في كل مرة قائلا: “الحمد لله أني لم أقتل أحدا ولم يسجل ذلك على رقبتي أمام الله”.
بالنسبة لهذه الأسرة فإن معاناتها كبيرة، وهو ما دفع والدة المعتقل إلى مناشدة الملك محمد السادس من أجل الإفراج عن ابنها وباقي المعتقلين في هذا الملف وطي هذه الصفحة.
مدان بالإرهاب يبحث عن الذات
“كلما حل هذا التاريخ أتذكر المعاناة التي عشتها أو عاشتها أسرتي خلال فترة قضاء عقوبتي السجنية”، يحكي محمد الماموني، المعتقل السابق على خلفية أحداث 16 ماي الإرهابية.
خلال لقائنا بابن كاريان طوما عاد بنا إلى يوم الاعتقال قائلا: “تم اعتقالي يوم 29 ماي 2003 بعد عودتي من العمل، ما إن دخلت المنزل حتى طلب مني مخبرون أمنيون التوجه معهم للتحقيق، قبل أن يتم الحكم علي بعشرين سنة سجنا نافذا”.
وينفي هذا المعتقل صلته بالحادث المأساوي، معتبرا أن هناك أيادي خفية وراءه، وزاد: “نحن استنكرنا الحدث ونعتبر أن أيادي خفية وراءه، لأنه لم تتبناه أي جهة أو جماعة إسلامية، وحتى حزب العدالة والتنمية تحدث عن هذا وعن علامات استفهام وراء هذا الحدث”.
داخل السجن كان الماموني يعرف أن سنوات الاعتقال طويلة، لذلك شرع في متابعة دراسته علها تنسيه كآبة المكان، موردا: “تابعت دراستي مثل بعض الشباب، لأننا وجدنا أنفسنا في وضع كان لزاما التأقلم معه. سلكنا طريق العلم، وحصلت على شهادة الباكالوريا وإجازتين، الأولى في الدراسات الإسلامية والثانية في الدراسات القانونية”.
واستفاد هذا المعتقل على غرار عدد من المعتقلين في ملف التطرف والإرهاب من برنامج مصالحة، ليغادر السجن سنة 2015 بعفو ملكي، ويقول في هذا الصدد: “كانت فرحة كبيرة، لكنها لا تكتمل إلا بخروج كافة المعتقلين المظلومين. لقد كنا أسرة وأدركنا أن كثيرين تم إقحامهم في الملف دون مبرر”.
محمد الماموني، المفرج عنه في إطار برنامج المصالحة، اليوم، يبحث عن ذاته، لإدماج نفسه وسط مجتمع تغير عنه؛ غادر السجن، وحاول تجاوز الماضي، كما يقول، وطرق الأبواب من أجل الشغل، لكن ‘وسخ السيرة’ كان عائقا أمامه لولوج وظيفة عمومية.
أمام هذا الوضع، حاول هذا الشاب إدماج نفسه بنفسه والبحث عن فرصة شغل، ويؤكد في هذا السياق أنه قام بتكوين نفسه، والحصول على رخصة سياقة حافلة، قبل أن يحصل على فرصة عمل مع مركز إدماج بسيدي مومن.
اليوم، يشتغل هذا الشاب الأربعيني سائقا لحافلة خاصة بمشروع لكرة السلة تشرف عليه NBA الأمريكية، لكنه يأمل أن تسارع السلطات في الالتفات إلى ملفه ومعالجته.
يجمع كثير ممن التقت بهم هسبريس على تغير كبير شهدته سيدي مومن منذ أحداث 16 ماي 2003، لكن ذلك لا ينفي وجود اختلالات وأعطاب وندوب على وجه هذه المنطقة، وعلى رأسها ملف “كاريان الرحامنة” الذي ينتظر تحرك الجميع لمعالجته.