هل «كاد المعلم أن يكون رسولا»؟
يكون للمعلم شأن في حياة طلابه حين يدرك عظم الرسالة التي يؤديها، وأن عمله ليس مجرد مهنة يؤديها أداء آليا مقابل أجره الذي يتقاضاه نهاية كل شهر، يكون له ذلك الشأن حين يدرك أن التعليم ليس تحضيرا للدروس، وتدريسا للمقرر، وتصحيحا للواجبات والاختبارات، وتسليما للأعمال، ليس درجات يمنحها، ولا شهادات يصدرها، ليس كل ذلك، ومع احترام كل تلك الأعمال المضنية التي ربما لن يستطيع تخيل حجم صعوبتها سوى من جربها، مع كل ذلك العمل المقدر إلا أن العمل الحقيقي للمعلم هو تنشئة القلوب السليمة والعقول الصحيحة التي إن سلمت وصحت فقد سلمت وصحت حياة طلابه، وهذا ما نص عليه الحديث الشريف «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»، العمل الحقيقي والمهمة الأسمى للمعلم هي أن يحول العلوم التي يتلقاها طلابه إلى منهج حياة؛ لا مجرد معلومات يرددونها شفاهة ويفرغونها كتابة؛ ليحصلوا على الدرجة التي يريدونها والمستوى الذي يؤهلهم له، مهمته أن يربطها بواقعهم، وأن يمكنهم من توظيفها في حياتهم، مهمته أن يربيهم على تحمل مسؤولية أنفسهم وما استرعاهم الله عليه، مهمته أن يبصرهم بالواقع الجديد حولهم، وكيفية التعامل معه، مهمته أن يناقش معهم هذه المتغيرات والثقافات الجديدة والتهديدات والتحديات التي فرضتها العولمة اليوم علينا جميعا، وعليهم بشكل أكثر وطأة وأشد تهديدا، مهمته أن يساعدهم على مواجهتها والانتصار على كل ما من شأنه أن يهدد هويتهم وصحتهم النفسية والجسدية وسعادتهم الدنيوية والأخروية.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو كيف له أن يفعل ذلك؟ وهل مناهجنا تؤهل معلمينا لأن يكونوا ذلك المعلم؟ وهل اختبارات القدرات للمعلمين اليوم تؤهلهم لذلك؟ أم أنها أصبحت آلة جديدة لتعليم التلقين الذي يساعد مَن أحسن الحفظ على اجتيازها للفوز بمهنة التعليم؟
أعتقد أننا نحتاج اليوم في ظل كل هذه المتغيرات إلى برامج ودورات تأهيلية وتدريبية لتكوين المعلم المناسب لهذا العصر، المعلم الذي تنهض بهمته عزيمة على الرشد؛ تحركها تقوى الله في السر والعلن وطاعة ولي الأمر وحب الوطن والغيرة على أبنائه، نحتاج أن نتأسى بأعظم معلم عرفه التاريخ؛ النبي الأمين محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أخرج الناس من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ووضع لهم خارطة الطريق التي يسلكونها بسلام إلى يوم الدين، الذي عالج أعظم القضايا بالإرشاد والإقناع والصبر والرفق والأسوة الحسنة، نبينا الذي لم يمنعه الانشغال بتبليغ الرسالة وتعليم أحكام الدين والفتوحات الإسلامية من تربية الأمة صغيرها وكبيرها في أبسط أمور الحياة من طعام وشراب ولباس وزواج وطلاق وضيافة وعلم وعمل وتعاملات مختلفة، نبينا صاحب الخلق العظيم الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه.
نحتاج اليوم المعلم الذي يشعر أن كل الطلاب أبناؤه، يحب لهم من الخير ما يحب لأبنائه، يتفقدهم، ويتفقد أحوالهم الجسدية والنفسية والعقلية والروحية، ويلاحظ ما يطرأ عليهم من تغييرات، يتقرب إليهم، ويقف على مشكلاتهم ويساعدهم في حلها ما استطاع، يتواصل مع أولياء أمورهم لا من باب الشكوى؛ بل من باب التعاون لما فيه خير الأبناء وصلاح أحوالهم، يتفقد غائبهم ومريضهم وحزينهم ومَن تغير حاله بشكل أو بآخر؛ فيقف معهم وقفة المربي الحكيم والأب الحاني والأخ المعين، نحتاج اليوم وكل يوم المعلم الذي يؤمن بسمو رسالته وقداستها؛ المعلم المربي الراشد الماهر القدوة الذي يتأسى به طلابه.
لا يصلح أن يخوض المعلم غمار التعليم دون ذلك التأهيل الحقيقي الذي سيؤهله ليستشعر عظمة مهنته وخطورتها، ويولد لديه الدافعية الداخلية لأدائها بحب ورغبة وإتقان مهما كانت العقبات؛ من كثرة عدد الطلاب، أو نقص الإمكانات، أو نقص الاستجابة، أو نقص الدعم أو غيرها؛ فالعقبات موجودة ولكن النية الخالصة وتقوى الله في أداء المسؤولية كفيلة بتذليلها؛ لأن عالم الغيب والشهادة سيحيطه بعنايته وتيسيره وتوفيقه وسيرزقه كما وعده تبارك وتعالى: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب» «ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا».
ختاما، قد لا يجد المعلم التقدير المعنوي والمادي الذي يستحقه، ولكن يكفيه شرفا أن كل صناع التاريخ وعظمائه هم صنائع يديه، يكفيه تقديرا أن «معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر»، وأن «أهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير»، والخير هنا كما جاء في بعض شروحات الحديث هو العلم الذي يرتفع به الجهل عن الناس وتصلح به شؤون دينهم ودنياهم، وإذا كان ذلك هو الشأن؛ فلا عجب إذن أن «كاد المعلم أن يكون رسولا».