سلطة القاضي في تقدير حجية القرائن
كما أنها تخفف من عبء الإثبات الواقع على المدعي في كثير من الأحوال، بل إنها تذهب أحيانا إلى حد قلب هذا العبء وإلقائه على عاتق المدعى عليه، كما عبر بذلك القرآن الكريم في قصة اتهام امرأة العزيز ليوسف عليه السلام في قوله تعالى: «قال هي راودتني عن نفسي، وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين»، فكان تعريف القرينة عند الفقهاء هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئا خفيا فتدل عليه.
القرائن لها دور قوي في الاستئناس والترجيح، وتعيين جانب أقوى المتداعين في الدعوى لقرينة وسيلة من وسائل الإثبات، وهي تُغني عن الوسائل الأخرى وتقوم مقامها، كالشهادة سواء بسواء، وقد جرت العادة المستقرة عند الفقهاء، كما ذكره ابن القيم، بأن قضاة الشريعة يقضون بالقرائن وهذا مستقر في الشرائع كافة.
على أية حال، لما كانت القرائن القضائية استنباطا يجريه القاضي على أساس ما يثبت لديه من وقائع، فإن دلالتها غير قاطعة، أي أن ما يستنبط من طريقها يسمح للخصم دائما بدحضه بكل وسائل الإثبات، ولو أن القاضي يبقى في النهاية حرا في تكوين اعتقاده، ولكن القرائن قد تبلغ من القوة حدا يستنبط منه القاضي الأمر المراد إثباته بشكل قاطع، بما لا يدع مجالا لاحتمال عكسه، فلا يكون ثمة محل من الناحية العملية لإثبات العكس.
وبناء على ما سبق وتقدم، فإنه من الضروري أن نتعرف على ما هي المبررات التي تجعل للقاضي السلطة المطلقة في الاختيار، وأخذ الأمارات والقرائن التي يستنبطها من أحداث الواقعة المتنازع فيها والمطروحة بين يديه، ويكون منها قناعته وعقيدته، لأن الاقتناع حالة ذهنية ذاتية وشخصية، وهي تخضع لضمير القاضي لا سلطان عليه غيره. والقاضي عند رجوعه لضميره لمعرفة الحقيقة وتكوين اقتناعه، فإن هذا الاقتناع يتكون خلال القواعد الأخلاقية الفطرية والقيم الدينية، ونذكر ما يبرر ذلك على النحو التالي:
– أن القاضي يكتفي بدليل واحد لبناء قناعته إذا كانت طريقة الاستنباط غير متهورة أو مجازفة، ولا يلزم القاضي بأن يبحث عن أي دليل آخر سوى القرائن القضائية للحصول على الاقتناع الوجداني، في حالة انعدام الأدلة الأخرى.
كما أن بإمكانه أن يفصل أي عنصر من العناصر على غيره بدون تقييد في ذلك، ويجب أن يكون هذا الدليل الوحيد كافيا لإقامة البينة، وإلا فإن الحكم يتعرض لرقابة محكمة الدرجة الثانية.
– أنه لا توجد أي تفاضل بين الشهادة و القرينة القضائية، فبإمكان القاضي أن يكتفي بقرينة واحدة لإسناد حكمه ولو كانت هذه القرينة تناقضها الشهادات المدلى بها.
كما أنه يستطيع – أي القاضي – أن يؤيد القرينة الوحيدة بيمين يوجهها إلى أحد الخصوم تكملة النصاب.
– أن القاضي هو الذي يقدر ما إذا كان الإثبات بالقرائن القضائية مستساغا، فقد يكون الإثبات بالقرائن القضائية جائزا قانونا، لكن تبقى للقاضي سلطة تقديرية واسعة للأخذ به.
فمثلا، إذا كانت لديه في القضية شهادات أخرى وأدلة يمكنه أن يستغنى عن القرائن القضائية، وبعد فراغه من ذلك يستقل القاضي في تقدير ما إذا كانت الوقائع متعلقة بالحق المدعى به ومنتجة في الإثبات، فقد لا تكون الوقائع متصلة بالحق المدعى به، أو إن كانت متصلة به فقد لا تكون منتجة في الإثبات.
ختاما، الإثبات هو الأداة الضرورية التي يعول عليها القاضي في التحقق من الوقائع، وسلطته في تقدير أدلة الإثبات مطلقة ومبررة، والوسيلة العملية التي يعتمد عليها الأفراد في صياغة حقوقهم المترتبة على تلك الوقائع يجب أن تكون لها أمارات وقرائن واضحة تدل على الحق الذي يطالبون به.
expert_55@