آخر خبر

طه حسين بين العمائم واللحى


يعد طه حسين علما من أعلام التنوير والحركة الأدبية الحديثة، امتلك بصيرة نافذة وإن حرم البصر، وقاد مشروعا فكريا شاملا، استحق به لقب «عميد الأدب العربي»، وتحمل في سبيله أشكالا من النقد والمصادرة.

وبين صدمة تلقاها من شيخه وهو يصرخ فيه قائلا: «اقرأ يا أعمى» ومقالة نسبت له بعنوان «ساعتان في الضحى بين العمائم واللحى»، اشتعلت معركة عمرها تجاوز القرن بين طه حسين والأزهر، وأثرت أحداثها في تشكل ملامح رحلته الفكرية ومشروعه في التزاوج بين التاريخ الإسلامي والحضارة الغربية، واحتاج الأمر سنوات كثيرة ليشيد عميد الأدب العربي تواصلا بين أصوله الملتزمة وأجنحته الفكرية المتحررة (بين الأصولية والعلمانية، الضدين المتصارعين على العقل العربي)، بعد أن تعمقت رؤيته وتفردت قدراته، فأبدع وتجسد هذا في أعماله الفكرية ومنها «على هامش السيرة»، و«الشيخان»، و«الفتنة الكبرى»، كنماذج دالة على متانة الفهم العلمي والديني.

ظلمت «الأيام» طه حسين وأنصفته مسيرته وجهده وإخلاصه العلمي، وربحت الأمة من هذا الظلم وانتبهت بفضل المعركة التي دارت بين الأزهر وطالبه (السابق) إلى مستجدات الحضارة الإنسانية، وتطورات العلوم والنهضة الفكرية خارج عباءة الخلافة العثمانية التي أظلمت العقل العربي المسلم وأفسدته بأفكارها الخبيثة التي ترسبت تحت المسام وبين الشقوق في كل ركن عربي، ونجاهد إلى اليوم كي نتخلص من بقاياها وذيولها.

لم يكن غريبا أن يتواكب تمرد الفتى الأزهري (المغضوب عليه)، والمهاجر بشغفه العلمي من الجامعة الأهلية في القاهرة إلى السوربون الفرنسي، مع سقوط الخلافة العثمانية وما أحدثه هذا السقوط من اعتلال في جسد الأمة الإسلامية، بعد أن شرذمها إلى دول مستعمرة عقولها خاضعة لكل إرهاصات المرحلة وتجاربها الفكرية والعبثية، فسطعت أفكار غزيرة متحررة بعضها مقبول وكثيرها لم يقو الجسد العربي (والمصري) المهترئ على تفهمه أو تقبله.

وقد توطدت علاقة الأزهر بالدكتور طه حسين بعد أن نضجت ثورته التجديدية، وهذب قسوته اللفظية التي استخدمها في كتابه الأشهر «في الشعر الجاهلي»، وكذلك تضاءل ثأره الشخصي مع المؤسسة ومشايخها بعد ما حرموه من شهادة «العالمية»، وهو الحرمان الذي شكل حافزا مؤثرا في نجاحه ومسيرته العلمية، وقد لاحت المودة في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي بين طه حسين والأزهر، حيث دعته مجلة الأزهر إلى أن يكتب فيها عن ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم واستجاب طه حسين لهذه الدعوة، وكان ذلك في ظل رئاسة الشيخ المراغي لمشيخة الأزهر.

وقد وجدت حديثا منسوبا للشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الحالي، ومنشورا في موقع اليوم السابع عام 2016 جاء فيه: «كنت وأبناء جيلي نقرأ أمثال هذه الكتب لنتعرف على هويتنا في هذا المعترك الثقافي الدولي، فمثلا طه حسين بالرغم من أنه كتب كتابا معينا وكان للأزهر موقف منه، إلا أنني مع ذلك أعتبره شديد الأدب مع التراث ومع رسول الله ومع أبي بكر وعمر وعثمان، ومن هذا المنطلق كنّا نعيش دائماً مع هذه الكتب ومع هذه القامات؛ لأنها فعلاً تربي العقول وتكون الزاد المعرفي».

وربما مثلت محاولة المفكر الإسلامي الراحل محمد عمارة في كتابه الذي نشر مع مجلة «الأزهر» في عام 2014 تحت عنوان «طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام»، محاولة جادة للمصالحة بين العميد والأزهر عاب عليها البعض نوعا من التحيز ضد طه حسين ونعت سيرته بالمشاع عنها وليس المؤكد فيها، ولكنها خطوة من خطوات ربما تسهم في إزالة السد المنيع الذي حرم الأزهر من فكر طه حسين، وحرم طه حسين من مكانته التي يستحقها التي بين علماء الإسلام.

تجربة طه حسين في تجديد الفكر الإسلامي، تستحق التأمل والتدبر، ربما يستفيد منها المهمومين بهذا الأمر، وربما يكشف إعادة قراءة التجربة بعد مرور قرن على سطوعها، تجديدا آخر وكشفا عن مدى قدراتنا الحالية على تقبل الاختلاف والتفاعل معه.

وقد ولد «طه حسين علي سلامة» في نوفمبر 1889 بقرية «الكيلو» بمحافظة المنيا. وفقد بصرَه في الرابعة من عمره إثر إصابته بالرمد، لكنَّ ذلك لم يثن والده عن إلحاقه بكتاب القرية؛ وتابَعَ مسيرته الدراسية بخطوات واسعة؛ حيث التحَقَ بالتعليم الأزهري، ثم كان أول المنتسِبين إلى الجامعة المصرية عامَ 1908 وحصل على درجة الدكتوراه عامَ 1914 لتبدأ أولى معاركه بعد أن أثارت أطروحته «ذكرى أبي العلاء» موجة عالية من الانتقاد. ثم أوفدته الجامعة المصرية إلى فرنسا، وهناك أعد أطروحة الدكتوراه الثانية: «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون»، واجتاز دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني. وكان لزواجه بالسيدة الفرنسية «سوزان بريسو» عظيم الأثر في مسيرته العلمية والأدبية؛ حيث قامت له بدور القارئ، كما كانت الرفيقة المخلِصة التي دعمته وشجعته على العطاء والمثابرة، وقد رزقا اثنين من الأبناء: «أمينة» و«مؤنس».

وبعد عودته من فرنسا، خاض غِمار الحياة العملية والعامة بقوة واقتدار؛ حيث عمل أستاذا للتاريخ اليوناني والروماني بالجامعة المصرية، ثم أستاذًا لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب، ثم عميدا للكلية. وفي 1942 عين مستشارا لوزير المعارف، ثم مديرا لجامعة الإسكندرية. وفي 1950 أصبح وزيرا للمعارف، وقاد الدعوة لمجانية التعليم، وكان له الفضل في تأسيس عدد من الجامعات المصرية. وفي 1959 عاد إلى الجامعة بصفة «أستاذ غير متفرغ»، وتسلم رئاسة تحرير جريدة «الجمهورية»، ورحل عن دنيانا في أكتوبر 1973 عن عمر ناهز 84 عاما، قضاها معلما ومؤلفا وصانعا من صناع النور.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى