آخر خبر

«قد حن في الديرة!» | صحيفة مكة


في منتصف شهر رمضان المنصرم نشر أحد الحسابات الإخبارية على شبكة تويتر خبرا مفاده التأكيد على أهمية الالتزام بالحضور المدرسي، وأن من يتغيب يوما من الطلبة سيكون عرضة للحسم من درجة المواظبة؛ فكان الرد من أحد المتابعين: «قد حن في الديرة!»، مما يؤكد أن قرار التغيب عن الدراسة في الأسبوع الأخير من رمضان قد صدر وحسم!

تناقل الكثير من أفراد المجتمع هذه العبارة على سبيل التندر والضحك، إلا أنها تنبئ عن ظاهرة مؤرقة تحتاج إلى وقفة حازمة لدراستها ومعرفة مسبباتها؛ للتخفيف من آثارها ومعالجة حدتها، فالأمر لا يتعلق بصاحب الديرة، بل جلنا قد وقف على شواهد عدة تبين تفاقم هذه الظاهرة وانتشارها بين صفوف المؤسسات التعليمية، فمثلا، رأينا مقاطع مصورة لمعلمين وأساتذة في الجامعات وهم يؤكدون غيابا جماعيا للفصول الدراسية! وآخرون يؤكدون وجود غياب يومي طوال العام في الفصول الدراسية.

بل الأمر تجاوز ذلك إلى تأييد وحث من قبل بعض الأساتذة والإداريين على اللحاق بركب الغائبين في مواسم محددة بحجة أن الغالبية لن تحضر، ومن أراد من أولياء الأمور أن يصارع الموج ويرسل ابنه لينهل من العلم، فمصيره غالبا أن يعود إلى المنزل مبكرا دون أن يتعلم شيئا! والأمر ذاته تكرر في أول أسبوع من الدراسة بعد العودة من إجازة عيد الفطر المبارك هذا العام.

ربما يظن البعض أن الأمر يسيرا، وتغيب الطلبة أياما معدودة لا يضر ولن يحدث فارقا كبيرا! لكن الأمر جلل، ويحمل في طياته آثارا سلبية على الفرد والمجتمع، ولذا عدت وزارة التعليم الأمريكية هذه الظاهرة أزمة تعليمية خفية. من هذا المنطلق، نشأت العديد من الدراسات والمبادرات في دول متفرقة حول العالم لمواجهة هذه الأزمة التعليمية التي أطلق عليها لاحقا بظاهرة الغياب المزمن (Chronic Absenteeism)، ويقصد بها بلوغ نسبة غياب الطالب 10% من الأيام الدراسية في السنة الواحدة، أي نحو 15-18 يوما دراسيا، سواء كان هذا الغياب بعذر أو بدون عذر.

بل إن الولايات المتحدة الأمريكية قامت في عام 2015 بتعديل قانون إلزام التعليم النظامي (No Child Left Behind Act) إلى (The Every Student Succeeds Act) لتعزيز الاستفادة من الجهود التعليمية المبذولة والأموال الوطنية المصروفة من خلال رفع نسبة نجاح الطلبة ومستوى تحصيلهم العلمي، بدلا من التركيز فقط على التحاقهم بالتعليم النظامي، وبموجب هذا التعديل ألزمت المدارس الأمريكية برصد حالات الغياب المزمن والجهود المبذولة لتفاديها في تقاريرهم الدورية.

تظهر الدراسات البحثية على مر السنين ارتباطا ثابتا وعلاقة عكسية بين الغياب المدرسي والتحصيل العلمي، فكلما زاد غياب الطالب قلّ أداؤه الدراسي وإتقانه للعلوم الأساسية، كالقراءة والرياضيات والعلوم الطبيعية. ووفقا لأبحاث أجرتها (Attendance Works)، وهي مبادرة غير ربحية لمواجهة هذه الظاهرة، وجد أن التغيب المزمن في المراحل الدراسية الأولى يؤطر لسلوك الطالب ومواظبته في بقية مراحله الدراسية، مما يؤثر بشكل سلبي على تحصيله العلمي ونتائجه الدراسية الحالية والمتعاقبة.

وهذا ما تؤكده التقييمات الوطنية الدورية لقياس التحصيل الدراسي لدى طلبة التعليم العام في الولايات المتحدة الأمريكية (NAEP)، فعلى سبيل المثال، حقق الطلبة المتغيبون في الصف الرابع مستوى أقل بمقدار 12 درجة في القراءة مقارنة بالطلبة المواظبين على الحضور، كما سجل الطلبة المتغيبون في الصف الثامن مستوى أقل بمقدار 18 درجة في الرياضيات مقارنة بالطلبة المواظبين على الحضور.

في دراسة بحثية أجريت على المدارس الحكومية في ولاية شيكاغو الأمريكية، وجد أن عدد أيام الغياب في الصف الثامن يعد مؤشرا قويا لنجاح أو فشل الطلبة في السنة الدراسية الأولى من المرحلة الجامعية.

كما أثبتت دراسة بحثية نشرت من قبل جامعة ميشيغان الأمريكية وجود علاقة طردية بين الغياب المدرسي وارتفاع نسبة التسرب الدراسي.

الأمر لا ينحصر على التحصيل الدراسي، بل يتجاوزه إلى غيره، فقد أظهرت دراسة بحثية قامت بها وزارة التعليم الأمريكية أن للغياب المزمن عواقب وخيمة على السلوك الشخصي، والصحة العقلية والجسدية، والدخل المالي للأفراد.

كما نشرت جامعة أكسفورد البريطانية بحثا يؤكد أن للغياب المزمن آثارا سلبية على المجتمعات في المدى البعيد، إذ تؤثر الحالات الفردية في مجموعها مع مرور الوقت على رأس المال البشري، وبالتالي إلى نتائج متدنية في الأداء المهني والاقتصادي.

والجدير بالذكر أن الغياب المزمن لا يؤثر سلبا على الطلبة المتغيبين فحسب، بل يؤثر على أقرانهم أيضا، إذ وجدت دراسة بحثية، شملت أكثر من 20 ألف طالبا في مدارس فيلادلفيا الأمريكية، أن الغياب المزمن للطالب في المرحلة الابتدائية له آثار سلبية على مستوى التحصيل العلمي لزملائه في فصله.

يصنف الباحثون الأسباب الكامنة وراء التغيب عن المدرسة إلى أربع مجموعات وفقا للأدوار التالية:

  1. الطالب، مثل الإهمال وتدني الدرجات والتنمر وغياب الدافعية.
  2. العائلة، مثل انخفاض الدخل وبعد المسكن وتدني أولوية التعليم النظامي.
  3. المدرسة، مثل سوء البيئة المدرسية ونقص المعلمين أو تدني أدائهم وضعف العلاقة بين المدرسة والطالب أو عائلته.
  4. المجتمع، مثل غياب الوعي أو الرقابة وتأثير الأقران ونقص الدعم الاجتماعي أو التعليمي.

إن مشكلة الغياب المدرسي المزمن ليست بمشكلة جديدة، لكن حجمها قد تضاعف بعد جائحة كورونا، إذ أظهرت دراسة نشرتها (Attendance Works) أن نسبة الغياب المزمن في المدارس الأمريكية تجاوز 30% في العام الدراسي 2021-2022، مقابل 15% في العام الدراسي 2018-2019، مما يتطلب من كافة الأطراف المعنية جهودا مضاعفة للحد من آثار هذه الظاهرة المتفاقمة.

ختاما، سيبقى الغياب المزمن ظاهرة مؤرقة، وعقبة في مسيرة تطوير الأنظمة التعليمية؛ إذ الطالب هو محور العملية التعليمية، وإليه تؤول الجهود المبذولة، سعيا إلى تعليمه وتهذيبه وتنمية قدراته، نفعا لذاته وأسرته، ومساهما في بناء وطنه نحو تحقيق رؤيته، ولذا تستحق ظاهرة الغياب المزمن أن ننظر إليها نظرة حازمة، بمشاركة أصحاب المصلحة من قيادين ومختصين ومعلمين وأولياء أمور وطلبة، فندرس أسبابها، ونضع الحلول الناجعة لتفاديها والقضاء على آثارها السلبية.

moqhim@



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى