آخر خبر

القرآن والندم اللذيذ | صحيفة مكة


قبل فترة قريبة رأيت الكاتب المبدع (محمد الرطيان) يقول بنبرة تكسوها الحسرة، ويصبغها الندم: “ندمان هذا العمر، كيف قرأت كل كتب الدنيا، ولم أقرأ القرآن قراءة حقيقية، ندمان أني كنت أطارد روايات عالمية وكتبا في الفلسفة والفكر وغيرها، لم أندم على المعرفة، المعرفة عظيمة، أيا كان شكلها وأيا كانت الجهة القادمة منها، لكن كان بين يدي أهم كتاب، هو الكتاب والبقية كتب، هذا الأهم”.

وهذا النوع من الندم ليس حديثا ولا غريبا، ولا يقتصر على فئات معينة من البشر، هو نور يقذفه الله عز وجل في قلوب بعض عباده، ليبدلوا ويصححوا مسارهم، ولحظة إدراك يتأملها القلب الموفق، ويستجيب لها العقل المسدد، هذا الندم صرح به علماء وعباد أفنوا أعمارهم في العبادة وطلب العلم الشرعي وتعليمه للناس. يقول سفيان الثوري: “ليتني كنت اقتصرت على القرآن”. وقال ابن تيمية في سجنه بعد قراءته للقرآن أكثر من ثمانين مرة: “قد فتح الله علي في هذا الحصن هذه المرة من معاني القرآن وأصول العلم بأشياء مات كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن”.

وهناك حسرة من نوع آخر، حسرة الرغبة مع قلة الحيلة وقصر ذات اليد، فالنفوس متعطشة لتلاوة كلام ربها وحفظه، والقلوب مشتاقه لتتبع سطوره، وتقليب صفحاته، وتقبيله واحتضانه، لكنهم لا يملكون المصاحف، إلا بأعداد قليلة، إما لفقر شديد أو قمع ظالم، كما يحدث في بعض الدول الأفريقية والآسيوية. في كتاب (حلية الأولياء): لما كبر ربيعة بن زرارة العتكي، كان يقول في سجوده: “اللهم لا تسلبني القرآن”.

قال أبو بكر بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزورها، قال فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها ما يبكيك فما عند الله خير لرسوله، قالت إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، قال فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.

لماذا هذا الندم؟ لأن من يقرأ القرآن بتدبر، في هدأة الليل أو ضجيج النهار، يجد فيه ما يدهشه من سعادة وجمال، من لذة وطمأنينة وسكينة، تتنزل عليه رحمات تسكن قلبه وتعيد له اتزانه واستقراره، وتهب عليه نسائم ربانيه تسقط أوجاعه وتروي ظمأ روحه، وتحي موات قلبه وترمم شروخ نفسه، فلا يعود كما كان، وكلما استمر وأكثر علا واهتدى.

يقول الشيخ فريد الأنصاري في كتابه: (مجالس القرآن): “السعيد من أكرمه الله بالاشتغال بالقرآن الكريم، تلاوة وتزكية وتعلما وتعليما، إذ ذلك هو مجمل وظائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك هي مدارات رسالات القرآن تلقيا وبلاغا. فطوبى لعمر عمره صاحبه بهذه المعاني العظيمة، وطوبى لعبد حمل هذه الرسالة الربانية، فكان بذلك من أهل القرآن أهل الله وخاصته”.

عن الأعمش، قال: مر أعرابي بعبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وهو يقرئ قوما القرآن، فقال ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: “يقتسمون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم”.

قال حافظ الحكمي:

هو الكتاب الذي من قام يقرؤه

كأنما خاطب الرحمن بالكلم

هو المنزّل نورا بينا وهدى

وهو الشفاء لما في القلب من سقمِ

هو البصائر والذكرى لمدكر

هو المواعظ والبشرى لغير عميِ

ولا نقول إلا كما علمنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى