أكاديمي يدعو إلى تجديد أسلوب الدفاع عن البخاري وتفادي “عويل المرجعيات”
قال عبد العزيز أنميرات، أستاذ الفكر الإسلامي المعاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس، إن الردود التي أسهم بها مثقفو المذهبية الاسلامية المعاصرة في النقاش الدائر حول ما كتبه منتقدو صحيح البخاري لن تنتهي بسبب طبيعة الكتاب وصاحبه في المجال التداولي العربي الإسلامي.
وأضاف المتخصص في الفكر الإسلامي أنه لم يكن ينوي المشاركة في هذا النقاش حتى تبينت له رغبة الكثير من المثقفين المنتسبين إلى خطاب القرآنيين الجدد في ترسيخ ثقافة الاقتصار فقط على المرجعية القرآنية دون غيرها لما يشوب السنة- في نظرهم – من علامات استفهام تجعل منها مرجعا غير معتمد في التأسيس الشرعي للأحكام.
وأشار أنميرات إلى صورة غلاف لبحث ماستر بكلية الآداب ظهر المهراز فاس يرجع إلى السنة الجامعية 2019 انتشرت في الآونة الأخيرة ذهب فيه صاحبه إلى الحكم بخرافية ما ورد في صحيح البخاري، مبرزا أن هذا الأمر ليس بالجديد، فقد سبقه صدور كتاب أسماه صاحبه رشيد أيلال بـ”صحيح البخاري.. نهاية أسطورة” 2017.
وذكر أستاذ الفكر الإسلامي المعاصر بالضجة الكبيرة التي قامت إثر صدور الكتاب حيث تسربلت بمجموعة من التعاليق والردود، مضيفا أن هذا الأمر لن ينتهي ما دام صحيح البخاري يعتبر في نظر الكثيرين أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، كما أن الناظر في طبيعة هذه المعركة سيجدها جزءا لا يتجزأ من المعركة الكبرى على التراث العربي الإسلامي التي ظهرت بشكل كبير في النقاشات الفكرية والإيديولوجية منذ عصر النهضة العربية وإلى اليوم.
وركز الأكاديمي المغربي على نوعية الردود التي واجه بها المثقفون هذا النوع من الخطابات، مؤكدا أن تتبعه الهادئ منحه إمكانية التيقن بأن الردود العاطفية والحماسية التي رافقت بحث الماستر وما قبله لم تكن في مستوى الرد العلمي المطلوب الذي نواجه به هذا الضرب من المثقفين أو الباحثين أو حتى أعداء الثقافة الإسلامية بصفة عامة.
وتابع انميرات: “لسنا بحاجة إلى من يصف منتقدي المرجعيات التي نؤمن بها بأنهم زنادقة أو طينة وقحة أو خوارج الأمة أو غيرها من النعوت التي لن تفيد من ناحيتين؛ الأولى أنها لن تشفي غليل المتتبعين الذي يرغبون في معرفة الحقيقة التي ضاعت بفعل غياب البحوث والكتابات الراقية في الثقافة الدينية التي لا تقتصر فقط على رفع رمح الدفاع، وإنما تتجاوز ذلك لتمسك برمح تقديم الجديد تأصيلا وتأسيسا، وإلا فإن الثقافة العلمانية بمختلف تلويناتها ستظل حاضرة ومتفوقة حتى في أطاريحها الكاذبة.
وأكد أن هناك حاجة ماسة إلى الرد العلمي الذي يبين بالأدلة العملية والدقيقة الشبهات والخرافات التي يحاول الآخر المختلف ترسيخها مستغلا غياب المثقف المسلم الذي يمتلك نوعين من الأسلحة: سلاح العلم والمنهج وسلاح المجابهة الفكرية البعيدة عن خطابات النفسية المهزومة أو خطابات الاحساس بعقدة التفوق والكمال، مشددا أن حاجة المستضعفين من هذه الأمة الذين يحبون البخاري إلى الرد العلمي الرزين هي من أوجب الواجبات وآكدها في المرحلة الحاضرة لدحض الشبهات والأفكار الخاطئة؛ ذلك أن من يملك الحقيقة لا يبالي حينما يعري فساد المناهج والأفكار، أما دونهم فلا يملكون إلا ثقافة النقد المجاني الذي لا يغني من جوع، ويستمر الآخر في حضوره منتشرا بين الناس، لأنه وجد الساحة فارغة من العطاء الجديد المتجدد.
وأما الناحية الثانية، أضاف أستاذ الفكر الإسلامي المعاصر، فلكون منتسبي المرجعية الدينية المعاصرين من الدعاة إلى هذا الدين يفتقدون جملة من الأخلاقيات حتى مع الآخر المختلف، فالانتصار للبخاري وكتابه يحتاج إلى خطاب من طينة المجابهة الحكيمة التي تكشف عورات المناهج وأخطاء المعارف بأسلوب معرفي حكيم يجعلنا في مستوى جمالية هذا الدين، وفق تعبيره.
وزاد مسترسلا أن “الرد على المخالف بهذا النوع من الفهم يعمل على تحقيق نتيجتين متكاملتين: الأولى رد الشبهات بالعلم والأدلة حتى يعلم المتتبع أي الحزبين أضل، والثانية تقديم الصورة المثالية للمثقف الإسلامي الذي ينشر أخلاق الأئمة ومحاسن العلماء دون الوقوع في تكفير من لا ينتسب إلى المرجعية التي نعتقد أنها على حق.. بل وتمكين الآخر المخالف مذهبيا من التعرف عن قرب على جمالية هذا الدين وأخلاقه ومعارفه بل وتقريبهم من حقيقة التاريخ الحقيقي للعلماء والمثقفين المسلمين الذي اعتراه التزييف والتدليس في أكثر من حقبة.
وخلص الأستاذ الجامعي إلى فكرة مفادها أننا لسنا بحاجة إلى ردود أفعال حماسية، وإنما إلى مواقف علمية وكتابات تُجابه الموجود وتقدم الحقيقة بالأدلة التفصيلية، وإلا فإن القارئ المعاصر لن يجد ما يسد به رمقه من الناحية العلمية والمعرفية، وستظل الأفكار المجابهة للبخاري وغيره حاضرة في يومياتنا تفعل فعلها ولو ببطء، لأن خطاب المشاعر لن يستمر أثره.
ودعا المتخصصين في العلوم الشرعية والعلوم الحديثية، على وجه الخصوص، إلى توجيه عناية أعمالهم للرد العلمي؛ ببيان ترهات الذين يدعون أن صحيح البخاري مجرد أسطورة، أو أن ما فيه مجرد خرافات، متسائلا: “هل قام من انتقدوا الباحث بالاطلاع على البحث، أم اكتفوا فقط بركوب موجة الردود؟ ولو اطلعوا على تفاصيل البحث، كما اطلعنا عليه، لكان أمر الرد العلمي أسهل مما يتخيلون؛ فشتان بين العنوان وبين تفاصيل الموضوعات التي حاول الباحث مناقشتها، وشتان بين البحث العلمي الرزين الذي ننشده في مثل هذه الأعمال النقدية وبين طبيعة المنهج الذي اتبعه الباحث أو الأدلة التي جاء بها في بحثه”.
وطالب المنافحين عن بيضة هذا الدين أن يدافعوا عن هذه البيضة بالمعرفة والعلم وأن يقدموا الحقيقة للناس بأسلوب يشفي غليل كل راغب في التعرف على البخاري وصحيحه، بأسلوب يتجاوز ما عهدناه، خاصة ونحن نعيش في عصر الانفجار المعرفي والفكري والمعلوماتي الذي يجد الإنسان غير المتخصص نفسه معه ممزقا بين ما ورثه من ثقافة وما يحيط به من أفكار، واصفا الذين يقولون بأن الرد عليه وعلى أمثاله هو من باب تضخيم حجمهم، بأنهم لا يملكون أية شجاعة علمية، بل ولا يتوفرون على الحضور العملي في مجال صناعة رد الشبهات كما فعل الكثيرون من علماء الأمة سابقا ولاحقا. ولذلك، يظل صوتهم من وراء حجاب، على حد قوله.
وختم بالتشديد على أننا “لسنا بحاجة إلى إعادة التعريف بالبخاري وصحيحه، على اعتبار أن مكتبات العالم تزخر بما لذ وطاب من المصنفات القديمة والحديثة التي تروي غليل الراغبين، وإنما هناك حاجة ماسة إلى من يجدد أسلوب الدفاع عن البخاري بالرد على منتقديه بالأدلة التفصيلية التي تعري الشبهات واحدة واحدة.. أما عويل المرجعيات فلن يزيد الظالمين الا حضورا ونشوة للأسف الشديد”.